الحديدة هي أكبر مدن الساحل الغربي وبها أكبر الموانئ اليمنية، وكانت سلة الغذاء المحلي لخصوبة أراضيها، ومعروف عن أهلها طيبتهم الشديدة وكرم طباعهم وعدم انغماسهم في صراعات الحكم، وكانوا دوما منشغلين بتدبير حياتهم اليومية ببساطة وزراعة أرضهم بعشق والعيش من صيد الأسماك، ورغم كل هذه الصفات الإنسانية إلا أنها كانت الأقل تنمية والأكثر معاناة والأشد إهمالا من كافة الحكومات قبل وبعد 26 سبتمبر 1962، وكان الهم الشاغل لأغلب من أمسك بالحكم في صنعاء أن يحصل مجانا على مزرعة يستثمرها أو يقضي فيها وقتا هادئا بعيدا عن ضجيج العاصمة وقسوة طباعها، أو أن يستولي على أرض دون مقابل في معظم الأحيان، ورغم الظلم الصارخ لأبناء المنطقة إلا أنهم كانوا يستسلمون له دون شكوى ولا بكاء ولا صراخ.
أخيرا تزايدت الأخبار عن احتمال قيام قوات التحالف بحملة عسكرية لانتزاع السيطرة على الميناء من الحوثيين، وفي المقابل تسربت بعض نقاط خطة يحاول مبعوث الأمم المتحدة السيد إسماعيل ولد الشيخ تسويقها كبديل لمعركة ستكون مدمرة لما تبقى من مظاهر الحياة داخل المدينة، كما أن الغموض يهيمن على دقة المعلومات التي تساعد على بناء قرار سياسي مقنع (كما لم يحدث في حالة نقل البنك المركزي إلى عدن دون تهيئة فنية ومادية) تحت غطاء الميناء وعدم انفراد (الجماعة) بمداخيله مهما قال البعض إنها ضئيلة، فهي تنفقها فعليا في غير المقاصد القانونية والإنسانية.
قبل أشهر كتبت في هذه المساحة عن الأهمية الإنسانية لقيام الأمم المتحدة بإدارة موارد الميناء واستخدامها بطريقة تساهم في التخفيف من معاناة اليمنيين البسطاء ضحايا صراع السلطة، وليس مستغربا أن يعترض الحوثيون على ذلك، إذ إن مداخيل الميناء وغيرها من الموارد المتاحة لا يعلم بها إلا الله والراسخون في العلم وليس عليها رقيب ولا حسيب. وقد أبدى البعض اعتراضات على تسليم إدارة الميناء للأمم المتحدة تحت شعار (السيادة)، وهو مصطلح غير صالح في بلد لا تحكمه سلطة وطنية يقتنع المواطنون بأدائها لانشغال مسؤوليه بالشأن الخاص، وليس معقولا أيضا أن ترفعه مؤسسات الانقلاب التي لا يعترف بها أغلب الناس ولا يتعاملون معها إلا كأمر واقع مفروض عليهم بالقوة الباطشة، وهي حالة متكررة في بعض من دول (الربيع) الذي تحول إلى إعصار اقتلع كل مقومات البقاء الطبيعي؛ لأن الذين نادوا به ودفعوا ثمنه وتدافعوا للإشادة به لم يمتلكوا أكثر من الحماس والرغبة.
يقول المنادون بالعملية العسكرية ببعدها الإنساني إن السيطرة على الميناء قد تساهم وتسرع عملية إدخال المساعدات الإنسانية والأغذية التي يحتاجها أكثر من 80٪ من المواطنين الذين تفتك بهم الأمراض ويعانون من المجاعة والضنك، لكن هذا المنطق لا يستقيم؛ لأن إيصال هذه المواد لن يكون ممكنا، لأن الجماعات المسلحة التي لا ترتبط بالتحالف هي المسيطرة على كافة الخطوط الداخلية، وسيكون الأمر الوحيد المتحقق من العمل العسكري هو حرمان الحوثيين من مداخيل ضخمة يحققونها لأنفسهم ولا ينفقون منها شيئا على حياة المواطنين، كما أن السيطرة على الميناء دون التحكم بالجبال المحيطة به ستعرض المدينة والميناء لخسائر لا يمكن تجنبها وستفاقم من سوء الأوضاع الكارثية التي يعاني منها سكان تهامة خصوصا واليمن على وجه العموم.
هكذا يصبح الأمر شديد الحساسية، فلا بقاء الميناء تحت سيطرة الحوثيين مقبولا ويجب أن ينتهي، ولا العمل العسكري سيحقق الهدف المرجو، ولذا فإن اتفاقا مدعوما من مجلس الأمن يمكنه أن يلزم الجميع بتسليم الميناء لإدارة محايدة، وهو عمل إنساني في المقام الأول، ويمكن أن يتم تطبيقه على ما بقي من مؤسسات تتقاسمها أهواء المتصارعين على السلطة، مثل البنك المركزي ومطار صنعاء.
مع ساعات الظهيرة من يوم الخميس السابع والعشرين من شهر يوليو الماضي، أعلن الشيخان الفضيلان محمد حسين- خطيب الأقصى ومفتي الديار الفلسطينية- والشيخ/ عكرمة صبري المفتي السابق للديار الفلسطينية، أن تقرير اللجنة الفنية التابعة لدائرة الأوقاف يؤكد، أن كل الإجراءات المعوقة لدخول الأقصى، مثل البوابات والكاميرات الإلكترونية، أُزيلت بالكامل، وأنه تقرر فتح أبواب الأقصى بالكامل، وأن أول صلاة تقام فيه، بعد إغلاقه يوم 14 من الشهر نفسه، ستكون صلاة عصر ذاك اليوم وحث المقدسيين على التجمهر مع المعتصمين قرب البوابات (السلسة، حطة، الأسباط) للمشاركة في صلاة انتصار الإرادة والعزيمة.
وأكدت المراجع الدينية أن العدو الصهيوني خضع لإرادة المرابطين على أبواب الأقصى، نتيجة صمودهم ورفضهم الخضوع لسياسة الأمر الواقع، التي أراد العدو الصهيوني المحتل أن يفرضها عليهم.
أسرعت من بيتي، الذي لا يبعد عن القدس أكثر من 20 دقيقة، وركنت سيارة الأجرة قرب باب العامود.
علقت بطاقتي الصحافية في رقبتي كي لا يستفزني أحد. وقفت أمام ثلاثة جنود يتمترسون على مدخل باب العامود، وقلت لأحدهم بالإنكليزية- أنا صحافي هل يمكن أن أتحدث معك؟ قال كلمة واحدة «لا». فأضفت هل يمكنني أن ألتقط لكم صورة فقال بصوته ويده لا. دلفت من البوابة الشهيرة متجهاً نحو الأقصى، وشعرت بفيروز توشوشني في أذني قائلة: «مريت في الشوارع – شوارع القدس العتيقة – قدام الدكاكين اللي بقيت من فلسطين»، العساكر في كل مكان. أياديهم على الزناد. أناس كثيرون يسيرون مسرعين في الاتجاه نفسه.
مررنا بالكنيسة الأرمنية ومطعم أبو شكري ومعرض الخزف الخليلي المشهور وطريق الآلام، التي حمل مسيحنا الفلسطيني صليبه على ظهره إلى مكان القيامة حاليا. هناك مفرزة من الجنود يصل عددهم نحو 20 جنديا، بقينا سائرين في الطرق المبلطة والمسقوفة إلى أن وصلنا باب السلسة. ألوف من الرجال والنساء والشباب والأطفال، اصطفوا على الجانبين قرب الشارع الذي ينتهي بباب السلسة، إحدى بوابات الحرم الشريف. في الأحواش تجمعت مئات النساء، محجبات وغير محجبات. الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر ما زالت أمامنا ساعتان ونصف الساعة لصلاة العصر حتى تفتح البوابات. قلت لنفسي دعني أتحدث مع عينة منهم، أسمع همومهم ومعاناتهم، وما تعني القدس لهم. طفت بينهم وجلست قرب أحدهم مستندا إلى حائط قد يكون صلاح الدين، قد استند إليه قبل دخوله بهو المسجد يوم الخميس أيضا 20 سبتمبر 1187.
«بلغ رسالتي للزعماء العرب القريب منهم والبعيد. لم يقف معنا أحد. الذين انتصروا هم أولاد القدس. الذين كسروا إرادة إسرائيل هم المقادسة الشجعان. أبناء القدس هم أحسن الناس وأرجلهم وأجدعهم، يليهم ويماثلهم شجاعة الغزازوة ومعهم فلسطينيو 1848 الذين جاؤوا لنصرتنا ولكنهم منعوا من الدخول»، قال رجل ستيني اسمه محمد. «نحن لا نريد لأحد أن يدعي أنه هو الذي أزال البوابات الإلكترونية أو الكاميرات الذكية. إنها إرادة هؤلاء الألوف الذي يقفون أمامك» تابع محمد.
الهتافات والتكبيرات تملأ المكان بعبق نادر ممزوج بالإيمان والتصميم، ونشوة تحقيق هدف يعبر عن انتصار إرادة الجماهير الصامدة المرابطة، التي لا تتراجع ولا تجبن ولا تخشى التضحية. «الأقصى خط أحمر. إنه رمز كبير وأحد مكونات الهوية الفلسطينية التي جئنا لنحميها. إذا كانت هناك إرادة يكون انتصار. المقدسيون مدعومون من شعبهم، هم الذين صنعوا الانتصار. المرأة شاركت بدور كبير. انظر إلى المرابطات في هذا المكان»، قالت لي سيدة ثلاثينية اسمها صفاء. الهتافات ترتفع: «بالروح بالدم نفديك يا أقصى». «فلنـُسمع عمان ولنسمع مكة المكرمة لبيك يا أقصى». «المرأة تناضل جنبا إلى جنب مع الرجل في الدفاع عن الأقصى»، تابعت صفاء. «القيادة هنا للمرجعيات الدينية. كل الشعب خلف مرجعياتهم الدينية المناضلة. أبناء عام 48 هم شعلة هذه الانتفاضة. وإخوتنا المسيحيون دائما يقفون معنا جنبا إلى جنب.
لقد أثبتوا لكل العالم أننا أخوة». وهو ما أكده الشاب فادي من القدس حين قال: «إن إخوتنا المسيحيين وقفوا مع إخوتهم المسلمين وقفة شجاعة. فلو نجحت إسرائيل في كسر إرادة المرابطين دفاعا عن الأقصى سيأتي الدور عليهم، وما يحصل للأقصى قد يحصل لكنيسة القيامة، كلها مقدسات نحميها بأرواحنا ونحافظ على كنيسة القيامة كما نحافظ على الأقصى».
«أنا من بيت لحم. جئت لنصرة القدس. بقوة الله وإرادة الناس ها هو الحق ينتصر على الباطل. الذين انتصروا هم أهل القدس خاصة والشعب الفلسطيني عامة. صمود هؤلاء المرابطين منذ 14 يوما هو السر في الانتصار. صمود أهل القدس أمام الغطرسة الصهيونية. المرابطون هم أولاد القدس، وكل من تمكن من التسلل إلى القدس من مناطق عام 48 وبقية المحافظات الفلسطينية»، قال أبو محمود. وتقدمت من شاب في ثلاثينياته اسمه أبو محمد، يستند إلى حائط، ومظاهر الجهد بينة على وجهه وكأنه لم ينم لعدة أيام. «نحن نناضل من أجل وجه الله تعالى. لا أحد يمثلنا هنا. لم يقدم أحد شيئا لدعم صمود القدس. من على صفحات جريدتك أريد أن أدعو الجميع لدعم القدس وصمودها، ودعم الناس هنا مباشرة لا عن طريق القيادات».
قدمت بطاقتي الصحافية الصادرة عن الأمم المتحدة للضابط الذي يصطف خلفه عشرات الجنود مشكلين سلسلة بشرية لإغلاق باب السلسة المؤدي للمسجد الأقصى، فرد بلغة عربية سلمية «تفضل.. صلاة مقبولة». عرفت من لهجته من أين جاء وإلى أيّ الشرائح ينتمي. بعد اجتياز الحاجز البشري، التقيت عماد الدجاني، أحد سدنة الأقصى وحراسه من المقدسيين منذ 23 سنة. اعتقل بعد حادثة 14 يوليو في سجن المسكوبية هو و60 فلسطينيا من المكلفين بحراسة الحرم الشريف، من الساعة الثامنة والنصف صباح الجمعة ولغاية السابعة مساء. وقد تعرضوا لأنواع من الإهانات. «وضعونا جميعا في غرفة واحدة وأجلسونا على الأرض، ثم أحضروا القوات الخاصة والمخابرات إلى الغرفة وبدأوا يختارون بعض الشباب للتحقيق معهم لفترة طويلة أمام الجميع.
بعض الشباب اقتيدوا إلى غرف خاصة لمزيد من التحقيقات. أخذوا منا هوياتنا وهواتفنا النقالة، حتى لا يتمكن أحد من الاتصال بعائلته وأهله. وكان الهدف التدقيق في الهواتف، بحثا عن صور أو أفلام قصيرة صورت ما جرى ذلك اليوم لمصادرتها ومنعها من التداول.
الساعة الرابعة والنصف، أذّن المؤذن لصلاة العصر. فتحت البوابات، تدافع الناس إلى الأقصى يحذوهم شوق غامر. ما هي إلا دقائق حتى امتلأ المكان للمشاركة في «صلاة الانتصار». كانت النساء يزغردن. والرجال يهللون ويكبرون ويستذكرون تهاليل العيد التي تقول «الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد» ويرفعون العلم الفلسطيني فوق المباني وقبة الصخرة.
وقد أكد لي فضيلة الشيخ عكرمة صبري، أن عدد المصلين الذين أدوا «صلاة الانتصار» نحو مئة ألف مصل، كانت قوات الاحتلال قد منعتهم من دخول البوابات الرئيسية قبل موعد الصلاة. اقتربت من المنبر لأسمع خطبتين ألقاهما خطيب الأقصى الشيخ محمد حسين، وتلاه الشيخ عكرمة صبري خطيب الأقصى السابق. وقد دعا الخطيبان للحذر وعدم استفزاز جيش الاحتلال المتمترس على البوابات «فهم يريدون أن يعكروا علينا لحظة عزة وكرامة وانتصار".
بعد انتهاء الصلاة وخروج الجموع من بوابات الأقصى فوجئ الجميع باقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي لباحات المسجد، كما أن مفرزة عسكرية تسلقت على مبنى المسجد وكانت تسدد بنادقها نحو المصلين. لكن الجماهير الغاضبة والمستندة إلى قناعتها بالانتصار بدأت تهتف أمام الجنود الغزاة. وما هي إلا لحظات حتى بدأ الجنود بإطلاق الرصاص المطاطي والقنابل الغازية والقنابل المسيلة للدموع، وانتشرت حالة من الهيجان وصيحات الشباب تدعو للصمود وتحدي قوات الاحتلال. وقد بلغ عدد المصابين حسب بلاغات الهلال الأحمر الفلسطيني 115 إصابة، واحدة منها على الأقل خطيرة، وتم اعتقال نحو 15 شابا. كانوا يريدون أن يعكروا على الفلسطينيين فرحتهم، يريدون أن يبعثوا برسالة مغمسة بالدم تقول «نحن أصحاب اليد العليا هنا فلا تحتفلوا بالانتصار".
حمل الناس الشيخ/ عكرمة صبري على أكتافهم عند الخروج من المسجد. ثم عادوا به إلى داخل المسجد مع تصاعد الاشتباكات. تابعته للحديث قليلا عما جرى. وبعد شيء من الجهد والمدافعة تمكنت من لقائه وأجريت معه حديثا قصيرا حول الأوضاع التي شهدها الأقصى في الأسبوعين الأخيرين. قال: «الذي صنع الانتصار هو شعبنا الفلسطيني. هم أهل بيت المقدس، الذين تضامنوا وترابطوا وتكاتفوا وقرروا أن يؤدوا ما عليهم من واجبات لمدينتهم وللمسجد الأقصى. هذه اللحمة القوية بين أبناء بيت المقدس كانت مفاجأة لنا جميعا.
وقال سماحته: «نؤكد مرة أخرى أن إسلامية المسجد الأقصى والحرم الشريف أمر مفروغ منه، وما يدعيه الاحتلال بأن السيطرة والسيادة لهم فهذا أمر مرفوض تماما وما حصل اليوم يؤكد بلا شك أن السيادة في الأقصى للمسلمين وحدهم، وهذه إرادة رب العالمين الذي شرفنا بأن نكون أمناء على الأقصى إلى يوم الدين".
القدس العربي