يختلف الناس في الدفاع أو التخوف من مصطلح «المقاومة» كفكرة تستهوي كثيرين من بسطاء الناس، وآخرون يرونها مسارا يستجوب الترشيد، والأمر في قناعتي يحتاج إلى تبرير أخلاقي وموقف فكري يفسر تصرفاتها ودوافعها الفكرية، كما أن أفعال بعض المنتسبين لها جعلها عرضة لانتقاد شديد من الذين اعترضوا على استخدام السلاح مقابل السلاح والعنف مقابل العنف؛ لأن أي فعل ثوري دون رؤى تتحكم في مخرجاته لا يمكن أن تكون نتائجه إيجابية، بل تصبح مدمرة للنسيج الاجتماعي وتحمل في طياتها عوامل صراع محتدم طويل.
إن غياب الموجهات الفكرية الحاملة لأي مقاومة أو حراك ثوري تكون مقدمة لكارثة يتحمل تبعاتها منفردين من يكتوون بنارها على الأرض ويتحملون لهيبها، بينما يعيش آمنين بعيدا عنها المنظرون لها والمروجون لقيمتها الإنسانية، غير عابئين بالفضائع التي يجنيها القريبون من ساحة الصراع الدامي، والأشد مثارا للاستغراب أن المنتشين بالترويج لقيمة المقاومة لا يقيمون اعتبارا أخلاقيا لحجم الدمار وأهوال الموت اليومي وانتشار الأمراض، بل إن نفرا منهم يتخذ من الحرب وسيلة إثراء وتأمين لمستقبلهم وأسرهم، حتى إن كان ذلك عبر المتاجرة بالمساعدات الإنسانية.
المقاومة التي تستند إلى الانفعالات الشخصية وتتخذ من قيم القبيلة وحدها مدخلا لتبرير فعلها تتحول إلى موقف يكون استنساخا لنفس ما هدفت لتغييره، وبإطالة أمد الصراع تتحول القضية إلى تنافس حول الزعامة وجني المكاسب المادية، بعيدا عن الرغبة في الانتصار والسعي له، ويتوقف الحماس لإنهاء النزيف، بل ويصبح المقتنعون من البسطاء بمثالية الفكرة مجرد أدوات يستهلكها المنتفعون الذين تصبح القضية عندهم وظيفة يرغبون البقاء في الاستمرار على رأسها.
في كتابه الشهير (سيكولوجية الجماهير) يقول «جيمس سكوت» إن (السهولة التي تنتشر فيها بعض الآراء وتصبح عامة تعود بشكل خاص إلى عجز معظم الناس عن تشكيل رأي خاص مستوحى من تجاربهم الشخصية في المحاكمة والتعقل)، وهذا هو بالضبط ما يحدث في البلدان التي أصبح فيها الانتهازيون قادرين على الإمساك بمفاصل المجتمع وتحريك عناصره فنراهم يمجدون كل فكرة وعمل لا يتحملون عواقبه طالما كانوا قادرين على استخلاص نتائجه لما يفيدهم، بعيدا عن مصلحة المجموع.
تبدأ مخاطر أي ثورة بغياب مفكرين لها والاكتفاء بالسلاح وعدم وضوح الهدف النهائي، وحصره في فكرة التخلص من خصم دون بحث في جدوى الوسائل المتاحة، والاكتفاء بحسابات هي في واقع الأمر أمنيات لا تستند إلى أرضية صلبة، فتكون النتائج سلبية في نهاياتها وتصبح الكلفة البشرية والمادية منهكة للمجتمع، فتتحول الأغلبية التي كانت تساند فكرة (المقاومة) معرضة عنها، بل وناقدة لها بسبب أنها تتحمل الثمن لوحدها ولا تجد نصيرا يعينها على مواصلة العمل الذي كانت مقتنعة به في البدايات.
الثورات في العالم قامت على أفكار رواد كبار بينوا الهدف من التغيير وشرحوا أهميته، بينما نجد أن أغلب حركات التغيير التي جرت في العالم العربي اندلعت شرارتها بسبب رغبة أكيدة في إحداث الفرق مع الماضي، لكنها لم تكن تحمل أكثر من الرغبة وغاب عن محركيها أن المجتمعات التي تبحث عن مستقبل أفضل لابد أن يمتلك قادتها رؤية واضحة وموجهات فكرية، لهذا نجد أن ما حدث هو استيلاء جماعات الإسلام السياسي على الساحة؛ لأنها الوحيدة التي تمتلك دليلا نظريا وأنصارا منضبطين قادرين على التلون وتقمص أدوار المناداة بالحرية والعدالة الاجتماعية، ومن المؤسف أن القوى أو الشخصيات التي تزعم تبني الأفكار الليبرالية وحتى اليسارية تصبح مضطرة لمسايرة التيارات التي تستخدم الدين وسيلة عبور وبهذا تنقطع صلاتها مع ما بقي من أنصار لها فينتهي تأثيرها على الأرض وتصبح هياكل فارغة من أي قيمة سياسية وإنسانية وتتحول قياداتها إلى باحثين عن منصب حكومي والاقتراب من دفء الحاكم.
أدرك أن الثورات والمقاومة والتغيير كلها قيم إنسانية تساهم في صنع مستقبل أوطان كثيرة، ولكن فقدان الوعي السياسي بالمخاطر والاكتفاء بترديد المفردات التي لا تحمل أكثر من التحفيز والتبرير، يشكل مدخلا آمنا وسريعا لحالة من الفوضى والاقتتال والدمار لا يتحمل ثمنها إلا البسطاء وحدهم.