لم تعد الكتابة عند الكثير من الكتاب الذين تطفح المواقع الإخبارية بكتاباتهم، تعكس هم اليمني وقضيته الوطنية التاريخية الأصيلة والمعاصرة وتعبر عن الآلام التي يحتسيها اليمنيون في صحوهم والمنام، بل بات غالبية الكُتّاب يتجهون مع أمواج الصراع والعداءات التي تتفجر هنا وهناك، سواءً على المستوى الشخصي أو بين الدول، وكأن الكل في معرضٍ للأزياء ينشر كل واحد منهم قدراته في الكتابة كي ينال منها خيراً من زيد أو رضاءً من عمروٍ.
نعم اليمن يتشظى في كل اتجاه وكل ما لديه من دم يجري في شرايين القلب والأوردة التي تمتد في جسده المنهك النحيل يسفك ويراق كل يوم دون خجل أو رحمة من أحد، يتضور جوعاً وهماً لا حدود له، بينما حملة الأقلام يهيمون في عالم آخر من المناكفات والبغضاء تمجيداً لهذا وحطاً من قدر ذاك، غير أن ما فعله الفنان الرائع/ محمد الأضرعي وفريقه الفني الرائع في جُل حلقاته البديعة يفوق كل ما كتبه المقالح مثلاً مذ كان مذيعاً في إذاعة صنعاء حتى آخر صرخة في الهواء، لأن الأعمال تقاس بخواتيمها كونها تعكس مدى القناعة وصلب الثبات.
حمل الأضرعي هموم الوطن وعبِّر عنها بكل وسيلة في زمن جَبُن فيه الكثيرون واحتار فيه الفنانون بل وتوارى معظمهم خلف أبوابهم المغلقة، تبنى الأضرعي كشف كل الأباطيل التي يختبئ وراءها تجار الحروب ومصاصي الدماء وبائعي أوراق السياسة الناقصة شكلاً، مضموناً ومعنى.
اندلفَ الاضرعي إلى قلب كل يمني في ربوع اليمن وخارجه، دون إذن من أحد، وركب موجات الأثير إلى كل دار بحرية مطلقة، تكلم بلهجة أهله ومارس بساطة أدائه، فكانت مفتاح القلوب ونزهة الأنفس المحدثة للتسلية والضحكة أحياناً والبكاء في أحايين أخرى. عمل الأضرعي كل ذلك في زمن اختلط فيه كل شيء وأطرق فيه الكثيرون وعجزوا عن تحديد الوجهة وضبط البوصلة والاتجاه، بينما حملة القضية الوطنية من الكتاب والفنانين عزموا وحددوا ما يريدون ولم يلتفتوا الى الأخاديد التي حفرتها الحرب على جدران قلوبهم بل عبروها وأشعلوا فيها الدماء وقوداً لمسارهم الطويل في الداخل أو من راء الحدود.
صارت الأقلام رخيصة في سوق النخاسة والرداءة والسقوط صارت خالية من حبر الوطن جافة من نجيعه ومداده، أكلوه في السلم لحماً طرياً ورموه في الحرب عظماً رميماً وانتشروا في كل اتجاه، قبلتهم المصلحة ودينهم التزلف والنفاق إلا من رحم الله منهم وعافاه من تلك الابتلاءات، وعلى راسهم كاتب الزمان المبدع مروان الغفوري الذي لا أعلم كيف يقسم وقته للقراءة والكتابة والعمل والتفكير ملياً عن مآسي الوطن، كتب عن كل شيء حتى صراع الخليج أطلق دمعه ودماءه، ولم يخل أحداً من هفوة هنا أو كبوة تعثَّر خيله فيها هناك لأن نَهَم القراءة وغزارة الاطلاع تولد أحياناً نوبات من الخروج عن المألوف وجنون يبرز في مقالة أو مقال، أو "بسط" وبيان وذاك شأن كل من أعمل عقله وفك عقاله وقرأ في كل شيء دون حدود.
جنون الكتابة التي تذهب أحياناً بعيداً عن سماء الوطن ثم تأتي خيراً من التي تغوص في تفكيرٍ واحد تغير طعمه ونكهته ولم تعد تظهر إلا بلون باهت وأوراق عتيقة تسكنها الرتابة وتعشعش فيها الخيبة وتكسوها التعاسة والانهزام.
تجني الشعوب وكتابها ما زرعته من ثمار فإن هي أنشأت أجيالها على زوامل الحرب واللصوصية والجهل وجعلت منها أكتافاً ومعالق لحمل السلاح وأصابع لضغط الزناد، فستجني موتاً زعافاً يزرع الحزن ويورث الضغينة والحقد والانتقام، وبالمقابل تجني الأنظمة السياسية ما أسست له من قيم ونشرته من معارف وعلوم نجاحاً وتاريخاً وذكرى وحبا واستقرارا في ربوع الحياة، يمتد إلى ما بعد الممات، أما إذا سارت على نهجها الحالي يركبها الخيلاء ويرافقها الظلم ومصادرة الحريات فمصيرها حتماً إلى زوال بعد أن تسحب معها كل موروث بديع وكل ذكرى كانت يوماً جميلة وستُبقي الخراب.