لكل شيء في عالمنا هذا- مادياً كان أو معنوياً- قيم معيارية نستطيع وزنه من خلالها كطريقة حاسمة للحكم عليه. وحين نكون إزاء كيان اجتماعي ما ونرغب بالحكم عليه، ولكي يكون حكمنا عادلاً وشاملاً فينبغي أن يكون ميزاننا دقيقاً لا يخطئ، لنزن هذا الكيان”فكراً وممارسةً” بهذا الميزان، وسنرى الحكم بعدها يفصح عن نفسه بتلقائية وصدق لا يشوبه شائبة.
ولا أجد ميزاناً أدق من”القيم الكبرى” التي تميز المجتمع البشري عن غيره من ناحية الوظيفة والغاية، وأهم هذه القيم”الحرية، العدالة، المساواة، الشورى” إذ تعتبر هذه قيماً معيارية لا يختلف في دقتها وصدقها وأهميتها اثنان، وسأتخذ منها محكمة أحاكم”الحوثية” فيها” فكراً وممارسةً”، ولنبدأ الجلسة الأولى- الحوثية والحرية: الحوثية كجماعة تنطلق من الخلفية” الاثنا عشرية”، ووفقاً لبديهيات الفكر الإثنا عشري لا يمكن أن تؤسس دولة تحترم الحقوق والحريات، لأن الحرية تتصادم مع فكرة” الإصطفاء الإلهي” التي يدور حولها هذا الفكر، والتي بموجبها يصبح رأي” الإمام” مقدس ومعصوم وعلى الجميع الخضوع له بتلقائية خضوع العبيد لأسيادهم، ولذلك لم يكن مستغرباً هذا النزوع الجنوني من قبل هذه الحركة _ إثر سيطرتها على مقاليد الحكم _ إلى التخلص من كل مصدر معارضة بأي شكل ومستوى من أشكال ومستويات المقاومة، فامتلأت السجون بالمعتقلين من رواد الرأي من سياسيين ومفكرين وصحفيين، وامتلأت المقابر بجثث المعارضين من ذوي الموقف الحركي، وعليه نخلص للحكم التالي:” أن الحوثية لا يمكن أن تقام بواسطتها دولة يتمتع الشعب فيها بأدنى درجات الحرية، بل سينقسم المجتمع فيها لقسمين: السيد، وباقي الشعب عبيد!.
الجلسة الثانية الحوثية والعدالة: الدولة العادلة تتمتع بقضاء مستقل تماماً عن سلطة الحاكم، بل أن الحاكم يكون أمام هذه السلطة بالحقوق نفسها التي يتمتع بها أي مواطن فيها، ونعرف جميعاً وقوف علي بن أبي طالب بفترة حكمه مع خصمه اليهودي أمام القاضي” شريح”، وكان الحكم لليهودي ولا عجب في ذلك، وحين نأتي لنزن الحوثية بهذا الميزان نرى أنها عطلت القضاء تماماً، وحين التفتت له قامت بتعيين أعضاء هذه المؤسسة بمعيار الولاء المطلق” للسيد”، وكان أول حكم إعدام في محاكمهم من نصيب” صحفي” في حين تعج البلاد بالقتلة سفاكين الدماء ! نخلص في هذه الجلسة للحكم التالي:” الحوثية لا يمكن أن تقيم دولة عادلة، بل أن فكرة القضاء العادل تتصادم مع جذورهم الفكرية وبالتالي تتعارض مع صميم ممارساتهم”.
الجلسة الثالثة الحوثية والمساواة: الدولة السوية يتمتع فيها الناس بحقوق وواجبات مواطنة متساوية تقتضي تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لكل خيراتها، وحين نأتي للحوثية نجدها تنسرب فكرياً من الإثني عشرية التي تقسم الناس لفسطاطين: سادة” أبناء رسول”، وباقي الناس مواطنين بدرجات متفاوتة وفقاً لدرجة عبوديتها لأبناء الرسول المزعومين، أما من ناحية الممارسة فبالنظر فقط لقرارات التعيين بالوظائف والمناصب الكبرى التي قامت بها هذه الحركة بعد سيطرتها على البلاد نجد أن جُل القرارات تلك كانت لأسرتين فقط، في بلد تعداده عشرات الملايين!، وبهذا الدليل القطعي نستطيع القول:” لا يتصور أن تقام دولة على أكتاف الحوثية ويتمتع مواطنوها بنفس الحقوق والواجبات ويقفون أمام كل الفرص والمناصب والوظائف بالتساوي” .
الجلسة الرابعة الحوثية والشورى:” وأمرهم شورى بينهم”،” وشاورهم في الأمر” الشورى في الدولة السوية ليست منة يمن بها الحاكم على ذوي الكفاءة والخبرة، بل واجب عليه وحق لأولئك، والشورى تتحقق وظيفتها بتباين وجهات النظر، وتتحقق غايتها بالرضوخ وتمرير رأي الأغلبية، وهذه القيمة بالذات تنسف مشروع الدولة الحوثية من الأساس، إذ قيام دولة بوسيلة الإنقلاب العسكري المسلح كيف ينتظر منها تحقيق قيمة” الشورى”، وحين نأتي لتصرفات هذه الحركة إزاء هذا الشأن بعد فرض نفوذها سنجد ذلك السعي الحثيث الذي اتجهت إليه الحركة _ وبتصريح قائدها _ لحل الأحزاب، وقيامهم بقتل كل أصحاب الرأي والمشورة حتى من أبناء جلدتهم، حتى خلا لهم الأفق السياسي بلونهم الواحد الأوحد الذي في تصورهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !، وتنتهي هذه الجلسة أيضاً بالحكم التالي:” مشروع الدولة الحوثية قائم على أساس الرأي الأوحد المقدس للإمام المعصوم عن كل خطأ!.
نخلص من الاستعراض السريع السابق لحقيقة ناصعة الوضوح، أننا حين نخضع الحوثية” فكراً وممارسةً” لميزان” القيم الكبرى”، فإن هذه القيم بمجموعها تغدوا مقصلة عادلة تجتث كل ذرة شك بإمكانية أن تحقق هذه الحركة أي مشروع حياة سوية، وتبدد كل وهم بإمكانية التعايش معها.