عام 2005، وقعتُ في قبضة جهاز الأمن السياسي بصنعاء لأول مرة في حياتي المهنية.
كنتُ أغطي وقفة تضامنية نسائية مع يحيى الديلمي ومحمد مفتاح، العنصران المرتبطان بجماعة الحوثي في صنعاء وقتها، وكانا يخضعان لمحاكمة في الجزائية المتخصصة بقضايا الإرهاب.
أدين الاثنان بتهمة التخابر مع إيران وصدر ضدهما حكماً بالإعدام.
تضامن الصحفيون والناشطون ومنظمات المجتمع المدني، مع مفتاح والديلمي، كما تضامنوا لاحقاً مع عديدين من ذوي النزعات العنصرية الكامنة، وهم يجلبون تباعاً للمحاكم .
جاء التضامن على وقع خطاب "المظلومية" المتفشي حينها وتمكن من التأثير على الضمائر السوية التي تعاطفت مع "ضحايا" مفترضين، وكانت جموع نساء الهاشميين وأنصار الحوثي يذرعن الساحات طولاً وعرضاً في صنعاء طلباً " للعدالة".
كثيرون من رجال العصابة السافرين حالياً لم يجرؤوا وقتها على التضامن العلني، وكانوا يفضلون استعطاف المشاعر العامة من خلال الدفع بالنساء.
سيثبت بعد بضعة سنوات أن تهمة التخابر لجماعة الحوثي وعناصرها مع إيران، كانت بائسة بالنظر إلى حجم الارتباط العضوي للميليشيا الطائفية بطهران.
سيتأكد أيضاً أن الكثير من تلك النسوة لم يكنّ سوى هراوات تغطيها الجلابيب السوداء، ستأخذ قسطها من التدريب لاحقاً على رؤوس أمهات وعائلات، يضعن قلوبهن المكلومة يومياً على أعتاب السجون والمعتقلات بحثاً عن مصير ذويهن المختفطين الضحايا، في سراديب الانقلاب منذ عامين.
لقد خُلقت الجماعة الطائفية من رحم التخابر، ونجمت عن علاقة آثمة على سرير علاقة غير مشروعة مع إيران.
هذا الوزر سيثقل كاهل المليشيا وحليفها المتخابر الحاذق، ليغدو شعوراً دائماً بالذنب، وسيحولانه إلى بندقية تصوب إلى قلب كل من يقف في طريق الانقلاب المدمّر.
يلجأ الشخص الكاذب أو السارق أو الواقع في خطيئة ما إلى اتهام خصمه أو شخص آخر، بما يشعر به حيال نفسه. يفعل ذلك لكي يجلب الارتياح لنفسه، كآلية دفاع نفسي تعيد توجيه نقطة ضعفها بصورة معكوسة ضد الآخر.تسمى هذه الآلية في علم النفس، الإسقاط.
لنتذكر الجزء الخاص بالمحكمة الجزائية المتخصصة التي كانت تحتضن وقائع محاكمات عناصر حوثية بتهمة " التخابر مع إيران".
اليوم تعيد ذات الجماعة بناء أجواء " المحاكمة " إياها بصورة مقلوبة لتلقي التهمة الغافية في صميمها كقلب إضافي، في وجه أكثر الناس بساطة : كاتب صحفي ونشطاء عزل.
بعد 8 أشهر من الخطف، أخرجت المليشيا الكاتب الصحفي وأستاذ الإعلام القدير يحيى عبدالرقيب الجبيحي، من سراديب الإخفاء القسري، ولفقت له تهمة مضحكة، كجماعة مريضة بالخيانة والتآمر.
الرجل اليمني الصميم، كبير في السن ويعاني من أمراض عديدة، واليوم تصدر كتيبة الميليشيات القضائية حكما بإعدامه بتهمة "التخابر مع السعودية"!
قبله بأيام وجهت ذات "المحكمة" الواقعة تحت سيطرة كتائب رديفة للعصابة في القضاء المختطف، تهماً لـ 36 ناشطاً مخفيين قسريا منذ قرابة العامين" بتأييد العدوان"!
تبلغ المهزلة ذروتها: عبدالملك وصالح، اللذان أسقطا العاصمة العربية الرابعة بيد طهران، بحسب الجملة الإيرانية الشهيرة، ينصبان "المحاكم" لصحفي وناشطين عزل بتهم التخابر!
لا شيء غريب ومفاجئ يحدث. هذا مشهد مأساوي من السردية المتغلبة على اليمنيين، حيث يلجأ أبناء "العلاقات غير المشروعة" لإفراغ مآزقهم النفسية فوق الضحايا!
لنضع واقعة محاكمة الديلمي ومفتاح في سياقها الآن. لم تكن إدانتهما بالتخابر مع إيران تهمة شخصية لهما، بل كانت إدانة رسمية وقتها من قضاء شرعي، لجماعة حملت السلاح في وجه دولة.
كانت في الواقع تهمة تافهة بالنظر إلى ما تؤكده الجماعة نفسها عن علاقتها العضوية بإيران.
في أي دولة طبيعية، لا يمكن أن تكون إلا جريمة خيانة علنية ومتبجحة تشعل ثورة. هي اليوم التوأم السيامي لميليشيا الإرهاب، تنتظر لحظة فاصلة في التاريخ لتكون خلف القضبان.
لقد نجح الحوثي في تجاوز مرحلة "التقية" خلف " المظلمة " المزعومة، فبعد " تمكين الإمام " بواسطة قائد العكفة صالح، استبدلت الجماعة وصبيانها من الناشطين، أسطوانة إنكار العلاقة بإيران، بـ " هيهات منا الذلة".
رفعت صور الخميني وخامنيئ على أكتاف أتباعها في صنعاء قبل الانقلاب كسلوك باعث للزهو والاعتداد، بعده صار الشعار الإيراني السخيف " الموت لأمريكا.." ليس نشيدا رسميا لمقاتليها فحسب، بل تسبيحة يومية لجيش صالح الطائفي.
إيران من جانبها لا تترك مناسبة دون المفاخرة بأن صنعاء باتت تحت يدها، وفي آخر "إحتفائية " تباهت بما حققه "أولاد الشوارع.. وغير المتحضرين " الذين كانوا بيادق مخلصة وضعت بواسطتهم واحداً من أهم المضايق العالمية، كباب المندب، في قبضتها.
كانت العبارة الإيرانية مزيجاً من الازدراء والدهشة، فهي لم تكن تتصور على الأرجح هذا الإخلاص الذي أبدته عصابة الإنقلاب، فقد دمرت اليمن وحولته الى ساحة صراع إقليمي، من أجل تحقيق عديد أهداف إيرانية: توسيع مساحة الأمن القومي لطهران بحسب تصريحات القادة الإيرانيين، وتهديد الأمن القومي للجوار والمنطقة.
تبين في جزء من التعليق الإيراني الذائع، أن ميليشيا الانقلاب الطائفي قدمت خدمات عظيمة لطهران يفوق توقعاتها!
في فترة المواجهة في جولات الحرب الست، لطالما وصم صالح الحوثي بأنه على صلة بطهران وامتداد لمشروع إيراني. قال ذلك في خطب عديدة وكان محقاً.
ولطالما وصف الحوثي ومنظري الجماعة، صالح، بالدمية السعودية، وكانوا محقين أيضاً.
في الواقع كان سجالاً لدميتين وبينهما خريطة يمنية دامية.
غير الجذر الطائفي المشترك، كانت طبيعة هذين الحليفين، تجعلهما أكثر قرباً ليدبرا الانقلاب. فرغم وقائع الدم يتبادل الاثنان الاعتراف عملياً بكونهما بائعين ماهرين لخدمات "العمالة" على عاصمتين على طرفي نقيض في مرحلة ما. لذلك قررا في طورهما الأخير بيع خدماتهما حصرياً لطهران.
هما الآن يؤديان النقلة الأخيرة لجنود بائسين على رقعة شطرنج إيراني.
لكن ذلك لا يلغي احتمالية الدخول في مفاصلة قادمة مع مشتري طارئ في اللحظات الأخيرة!
لو كان هناك أسم آخر للخيانة، لكان ذلك الكائن المسخ الذي أنتجته المختبرات الإيرانية: علي صالح عباس الحوثي !