تتشابه المدن في أشياء.. تتباين في أشياء.. وتتماثل في سواها.
وأناس هذه المدن أيضاً تنطبق عليهم الحال ذاتها، والصفات نفسها..
غير أن لكل مدينة خصوصيتها التي تمتاز بها من دون المدن الأخرى..
ولكل مدينة ذاكرتها التي تتجاوز المكان إلى الزمان، والهوية إلى الانسان..
فالمدينة النائمة على ساحل البحر أو ضفاف النهر ليست مطلقاً كالمدينة الرابضة على صهوة جبل أو في قلب وادٍ أو المتاخمة لبساط الصحراء، ولا أهل هذي مثل أهل تلك، من ناحية الخصوصية وفي مضمار الصفات.
عدن.. مدينة ممتدة الزمان، متمردة المكان.. لها ذاكرة البحر، هوية العشق، أنْسَن ما في الانسان.
هي مختبر المعادن البشرية، ترمومتر التاريخ، بوصلة الجغرافيا، وقاموس التعددية في أنصع صفحاته وأروع طبعاته وأجمل لغاته.
عدن اللا معقول..
أنظف ما في القلوب، وأشرف ما في العقول.
...
...
هذي هي عدن.. المدينة التي أكتسبت طباع البحر وأخلاقه وصفاته..
فالبحر يرفض النفايات ويلفظ الأسماك الميتة.. وهكذا عدن أيضاً، ترفض التخلف في السلوك والتفكير، وتلفظ كل أشكال التعصب والتفرقة، وكل انفصال في الوعي أو انفصام في الوجدان.
ومثلما للبحر قدرة سحرية على تشذيب النفس البشرية، فيمحو عنها مسامات الجلافة وشعيرات الصلافة، ويغذيها بملح البساطة وهرمون الانشراح.. فإن عدن أيضاً لا تقبل بين أحضانها الاَّ الأبناء الطيبين الذين رضعوا من ثديها لبن الحب، فبادلوها حباً بحب.. أما الولد العاق فكانت الأم -عدن- تقبره دائماً على شواطئها، وفي أهون الأحوال تنفيه مغضوباً عليه عن هذه الشواطىء.
ودائماً يحمل البحر على كاهله كل السفائن من كل نوع ومن كل ثقل ومن كل جنسية ومن كل غرض.. وهكذا هي عدن، حملت على كاهلها اليمني -بدوياً وحضرياً وجبلياً وساحلياً- والعربي والهندي والحبشي والفارسي والطلياني واليوناني والبريطاني والصيني والتركي وغيرهم أشتات.
كما أحتضنت المسجد والكنيسة والمعبد والكنيس.. حاضنةً المسلم والمسيحي واليهودي والمجوسي والبوذي والهندوسي وغيرهم أشتات.
...
...
هذي هي عدن..
" بندر عدن يا ليتني مُعدّن..
وليتني جنب الحبيب مُخزّن".
قلت لكم سلفاً وتكراراً:
هذي هي عدن.
لكنني أستسمحكم العفو والمعذرة، والصفح والمغفرة.. فقد نسيتُ أن أقول لكم:
- هذه هي عدن.. التي كانت!
أما عدن التي صارت، فلا أستطيع أن أصفها.. لأنني لا أعرفها!!