بشفافية ساطعة، كان يسبق الجميع إلى الحزن، كما يسبق الجميع إلى الفرح.. بل كان يهش عنهم المخاوف والمتاهات والانكسارات والمكابدات والمذلات، هاتفا بأناشيد اليمن الكبرى والمتجددة والعنفوانية التي لا تشيخ ولا ترضخ.
ثم-وهو يعبئ أعصابهم بالحنين الزاخر والحكيم إلى معاني الله والوطن والمواطنة والجمهورية والعدالة والمعرفة والجمال -كان يفعل بهم كما يفعله المطر المفاجئ في المواسم القاحلة.. لذلك رغم رحيله الجسدي، سيتواجد أحمد قاسم دماج، في أماكن كثيرة، وفي قيم كثيرة أيضا، فيما روحه الرهيفة والباسلة التي كانت عابرة للأزمان وللأجيال وللتشرذمات وللصنميات، ستظل في تمام سحرها الأليف- كما بكامل تجلياتها الأبدية- دائما.
وبالتأكيد، حياة رفيعة، تلك التي عاشها أحمد قاسم دماج، وقضاها كناسك متبتل في محراب اليمن، وعلى الرغم من الظروف السيئة التي كانت تتنامى حوله، كان لا يهرب من الخسارات، بقدر ما يواجهها ببريق ضحكته المفرطة بالتهكم من الخسارات.. ثم يحاول ثانية، مكابدا، و بلا يأس.
ففي العمق، تختزل حياة أحمد قاسم دماج، وعورة الحياة في واقع قاس كاليمن، واقع يخضع لمتطلبات تفوق الممكن والمعقول كيما يبقى المرء متوازناً فيه، ولطالما أجبر هذا الواقع كثيرين بالطبع لتغيير جلودهم، حتى اضطر هؤلاء للرضوخ للمنظومة الإجتماعية والسلطوية، مفضلين تقديم التنازلات.. غير أن أحمد قاسم دماج اختار طريق الطهرانية الأصعب، كما فرض شخصيته الاعتبارية على كل منظومة، غير متكئ إلا على انحيازه -كمثقف عضوي- للبسطاء وللحالمين فقط.
والثابت أنه في مجمل تطلعاته التقدمية المحتشدة -وكآخر الصعاليك المخضرمين- عاش حياة مفعمة ومتشعبة بمختلف الاضطرامات الوطنية والإنسانية، الجالبة للاعتزاز أولا وأخيرا، كما كان من الطبيعي أن تتجمع في حنان عينيه -المارقتين المضرجتين بعواءات الأفق المفتوح بلا نهاية منذ أدرك وعيه في أربعينيات القرن الماضي وحتى اغماضته الأخيرة- كل عفوية الفلاحين، وكل صلوات المتسامحين، وكل حناجر الثوار، وكل مروءات الغرباء، وكل رقصات العشاق، وكل حمى الممسوسين، وكل أرق الأمهات، وكل قصائد الطيبين، وكل كؤوس الندامى، وكل أرغفة الجوعى، وكل حروز الجدات، وكل مغامرات الأطفال، وكل كوابيس المشردين، وكل صبابات العارفين، وكل نوبات السرياليين، وكل تأويلات النقاد الحديثة، وكل نظريات الفن والفكر والسياسة المعمقة، وكل هيبة وغموض الفرسان القدماء كذلك.