لو عقد العالم الجديد محفلاً كبيراً يطرح فيه أسئلة التقدم الأخلاقي فماذا سيقول لطاولته عن الفلسفة، ما هي مقاصدها لإسعاد البشرية؟ كيف تشرح لنا قصة الوجود؟ ما الذي ستستخلصه لرحلة الحياة؟ وما هي دلالات ما بعد الحياة.. سرمدية أو عدمية؟ وكيف تنتظم في وجدان الإنسان مفاهيمها المنطقية كقناعة عقلٍ واستقرار روح؟ فتضيء درب الإنسانية ليرتقي الجسد ضميراً وأخلاقاً.
غير أن مثل هذه المثاليات الموضوعية الأخلاقية ليست بالضرورة كل نتاج الفلسفة، وإنما هناك انهيار في بعض طرقها يتوسع في انحرافه حتى يكون مجموعها نظريات سفسطائية، ولغوا غبيا يفسّر الماء بالماء، أو يذهب إلى تفكيك خيالي لا معنى له إلا الدافع لنكران حقيقة لا يحبها، أو بناء هيكلٍ من قواعد تفكير كانت ركاماً من مشاعر بعض الفلاسفة، وربما أزماتهم الشخصية أو محنهم ومآسيهم، وليست معادلات بناءٍ منطقي تقود إلى الحقيقة.
هذه المقدمة مهمة للغاية في إعادة السؤال حول رسالة الفلسفة التي لا يُنكَرُ أبداً أنها كانت بدءَ الحوار البشري مع العقل بآلات النظر والتفكر، وبالتالي إدراك محيطه والبحث عن مصيره، ولذلك كانت حاضرة في كل عهود العالم -لكنها ليست بذات المستوى والقدر- منذ أفلاطون.
كما أن التوقف عند رسالة الفلسفة في سعادة الإنسان روحيا وماديا لا بد أن يكون حاضرا في الجدل الدائر اليوم بشأن العلم العتيق، حتى يكون مبحثُ الفلسفة ذا توجيه أخلاقي للبشرية، وإن فُهمت بعد ذلك كل نظريات الفلاسفة التي بعضها حشوٌ مضرٌ بالوجدان مربكٌ لاستقرار التفكير، وليس طريقاً للخلاص أو لمعرفة الرحلة الكونية.
ومن هنا يبدو لنا نموذجان غايةً في الأهمية في إعادة فهم الفلسفة التي تمثل العودةُ لها اليوم مداراً متجدداً في حياة الشباب من المسلمين وغيرهم، إذ اتخذها بعضهم طريقاً للإلحاد، وبعضهم سلك عبرها قناعة الإيمان، وحضور الفلسفة في الثقافة الإنسانية أمر طبيعي ومستمر منذ آلاف السنين وإلى اليوم، لكن السؤال هو: كيف تُنظّم قراءة تراثها الضخم؟ وفي أي اتجاه؟ بناء الإنسان أم هدم ممانعته الفكرية والوجدانية، وزجه في دوامة الشك العدمي لا المنطقي.
النموذجان هما فريدريك نيتشه وعلي عزت بيغوفيتش، وقد كان نيتشه أحد الأركان الكبرى للفلسفة الغربية المعاصرة، وحديثنا عن إشكالياته لا يعني التقليل من القيم الأخلاقية أو مدارات الاستنباط التي وصل إليها، وهي ذات دلالة عقلية وشعورية واضحة، وإنما الحالة التالية التي اجتاحت فكره وفلسفته، وأين ممكن فهمها في السياق العام للفلسفة المرشدة للبشرية.
ولقد اتحدت كلتا الشخصيتين في نقض تقديس المثالية الغربية، وخاصة فيما يمكن وصفه بنهضة الآلة لا نهضة الإنسان، وعنصرية فكرة السمو البشري للنهضة الغربية الحديثة، حين تتحوّل نتائجها إلى حصاد مُرّ للبشرية أو حروب استعمار، وهي هنا مدار مهم في لفت النظر لحالة التولّه بالغرب التي يعيشها المشرق عند تزايد حروبه وانهياراته.
فهذا التفوق السياسي والصناعي ليس مقياس عدالة، ولا ينتهي لنهضة تكاملية أخلاقية للأسر البشرية، بل الكارثة أن يُجعل من حصيلة الاستبداد للمثالية الغربية -أي تفوق إنسان الغرب كقوة سائدة عبر منظور فسلفي ينسب لهيغل- مثالا تتبعه البشرية الأخرى، المفرزة جغرافيتها الشرقية أصلاً من عناصر التفوق.
فنتاج هذه المثالية في شقه العلمي المحض -أي تقدم الآلة الصناعية دون اعتبار لآثارها المدمرة للبشرية ودون تهذيبها لمصلحة بيئاتها وصحتها وسلامتها- هو في حد ذاته يُسقط هذا المعيار، وليس المقصود رفض التقدم العلمي وإنما رفض تقديس الصناعة وفك كل قيودها، حتى لو آذت البشرية وأنهكتها، وغالباً يُعبّر علي عزت بيغوفيتش بمصطلح العلم مقابل الروح، أي العلم المجرد من دلالة الوعي والشعور واستنباطاته الذهنية، وذلك حين يَرِدُ هذا الاستدلال كثيرا في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب".
هذا الموقف في إدانة منتج ما يسمى الحضارة الغربية كان واضحاً لدى نيتشه ولدى بيغوفيتش، لكن نيتشه تحوّل بعد ذلك إلى إغراقٍ لا حدود له في هدم أي معيار أخلاقي للحياة البشرية، واعتبار أن كل ما ثبت في انتخاب قيم الخير والعدل والتسامح هو نشأةٌ باطلة قائمة على خطيئة الاعتراف بالدين والخُلق، من مصدر الضمير المتعبد للإله أو المتلقي لقيم المجتمع الروحية.
ثم استرسل بتطرف لصناعة البديل للضمير الأخلاقي والروح المتدينة، حتى وصل إلى تقديم منتج كامل للبشرية يعيد فيها ربطها بقوة خارقة، هي بذاتها تصنع سرمديتها ويقودها إنسانها الذي يموت! واحتاج نيتشه إلى إعادة بعث زرادشت، ثم الحديث باسمه في رواية رمزية عن قصة هذه القوة والحياة، في إغراق أسطوري واضح يبرز أن نيتشه يسعى بكل قوته لإنكار أمرٍ يعيشه الوجود ولا سبيل لإنكاره، وهكذا تحولت الأسطورة والإنسان القوي الإله إلى معتقد فلسفي يبشر به نيتشه.
ولقد تناول د. فؤاد زكريا ود. الربيع ميمون -بحسب نقولات كتاب "نيتشه الفيلسوف الثائر" لجمال مفرح- جوانب نقدية عميقة في دلالتها الظاهرة لتناقضات شرسة أبداها نيتشه في فكرة الكون والحياة والإرادة البديلة عن المبادئ، ولكن مصير انتهاء نيتشه إلى مرحلة الجنون والصدمات النفسية -التي تعرض لها في حياته الإنسانية والعاطفية- وردة فعله العنيفة، لا يمكن أن تُغفل في التقييم الموضوعي لفلسفته، وخاصة ظواهر الهجوم الشرس على كل التراث الأخلاقي، والمسحة المسيحية الروحية التي هاجمها نيتشه بقسوة وسيطرت على فكره.
وبالتالي لا يُمكن أن تُعزل الأفكار الفلسفية -التي تتخذ طابعا عاطفيا ثم أسطوريا غامضا ومتناقضاً- عن شخصية وسيرة المفكر الفيلسوف، فهذا جزءٌ علمي في فهم عواصف التنظير ومفاجآتها التي ترد في نصوصه، وليست طباعاً شخصية مستقلة، ولا يسلّم لنيتشه قوله إني شيء وأعمالي شيءٌ آخر، بحكم ما يرصده الباحث بوضوح في تداخل الشيئين.
إن من الواضح أن أزمة نيتشه كانت خارج سياق قراءات مختلفة تناولت فلسفته، وهنا أهمية إعادة عرض ونقد تاريخ الفلسفة الغربية، لقد تحولت ثورة نيتشه ضد القيم والأخلاق الموروثة من فهم بشري، سواءً كان أخلاقيا أو منحرفا أو كهنوتا دينيا مزورا أو تدينا صادقا وحقيقيا، إلى ثورة عنيفة ضد الروح التي أعجز نيتشه تقديم تفسير مقنع لها في رحلة الإلحاد.
إن هزيمته أمام الروح التي تبعث المشاعر وتذكّر بالحياة، وتقدم كل لحظة من أجزاء الثانية دلالة على الوجود الآخر الذي يُشير إلى العالم غير المنظور ولكن بيقين متواتر من داخل النفس، كانت في غالب الظن دافع نيتشه لهذا الإغراق في الرفض، ثم صناعة أسطورة بديلة عن الحياة الآخرة ورواية الدين الحق، الذي يقدم تفسيراً موضوعيا مقنعا لما بعد الموت.
أي أن نيتشه كان يُعاني من أنه لا يستطيع هزيمة الدليل الذي يعيش بين جوانحه، فسعى بكل قوته لإنكاره أي إنكار الروح، فلا تفسير مقنعا فيما قدمه للسرمدية العدمية للروح، وما هي؟ وكيف تسعى بين الجسد وبين الناس؟ وكيف ترث الأرض الجسد ويبقى حضور الروح غير المنظور؟ وهو أمرٌ معلن في تعاليم الدين الحق عن قصة الوجود.
هل كان ذلك التناقض في حرب نيتشه لروحه من داخله سببا في جنونه؟ لا نجزم بذلك، لكنه جليٌ في كلماته وثورته، وفي تقديس انتحار الإنسان الأعلى الذي بشر به نيتشه كقرار قوة! وأيضاً في هزيمة فلسفته التي لم تقنع الذات ولا العالم، ولم يُنتج بديل نيتشه في إرادة القوة مشروعاً إنسانياً يُحيّد الظلم المادي والتطفيف الديني، لأن إنكار الروح يعني الخروج من الحقيقة الكبرى، ودلالة الوجود للخالق المشهود فوق أدلة الحضور.
لقد ركز علي عزت بيغوفيتش في حوار الإنسان والحياة -عبر كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"- على دلالة الروح، واستعرضها بكثافة عبر حشد منطقي وموضوعي في كل دلالتها اليقينية على الوجود الآخر غير المادة والموجد الخالق، ورغم أن بيغوفتش فَصَل ابتداءً خطه عن الروحانية المفرطة في هذا الجانب من علاقة الإنسان والدين بين الجسد والروح، ولكنه في تأسيسه لمعادلة تهافت مسار الفلسفة الإلحادي أشبع هذه الدلالة كل حقها، وكأنه في مناظرة مع نيتشه والمؤيدين له.
ويلفت بيغوفيتش نظرك بعناية -يعكسها حجم اطلاعه وفهمه- لعدد كبير من فلاسفة الغرب وأعمدة الفن وأسرار الموسيقى، وهو جانب ركز عليه في نقاشه الموضوعي الهادئ، وهو يُسائل الطرف الآخر: أيُّ مادة تخلق هذا الذوق وأي مشاعر طورتها المادة في روح الإنسان؟
ثم يصل إلى فكرة التكامل في معادلة الوجود، وأن الخلق والدين بمساراته المتعددة دلالة يقينية على قصة من أوجد الروح وإلى أين منتهاها، وحديث بيغوفيتش كان انسيابياً مقنعاً سهلاً وعميقاً لكل نفس بشرية، بينما كان نيتشه مغرقا في صناعة البديل السرمدي والإنسان الأعلى، الذي هو من خلقه فلسفياً في لحظة انفعال ويأس.
فكيف يُبنى على ذلك مذهبٌ فلسفي يهدم رؤية الوجود واستقرار الإنسان، وينسجم ليس مع كل دعوة دينية وإنما مع إسلام كل الأنبياء الذي جاء وحده بالرسالة المتطابقة مع حالة الشهود وحالة الروح، والتي تجيب بموضوعية لا أسطورة عن ماذا بعد الموت.
يبقى أن فلسفة بيغوفيتش في رحلته التي أخرجته من السجن الشيوعي حكيما ملهما، ثم مع هجوم الروحية الصليبية الفتّاكة في الأرثوذكس الصرب والكروات الكاثوليك على البوسنة، جعلت منه قائدَ مقاومةٍ عادلا، وإنساناً انتصر حين فتح باب الحياة للجميع، وأعلن أن معادلة العدالة الأخلاقية هي البقاء والرفاه لكل النفس البشرية، بفهم الإسلام الحق لا فهم الوعاظ المزيفين الذين فر نيتشه من أقرانهم المسيحيين، ولا فهم المستبدين باسم المسيح أو باسم سيد المرسلين.
مدير مكتب دراسات الشرق الإسلامي بإسطنبول