وصف الحافظ ابن الجوزي في حوادث سنة أربع وثلاثين من الهجرة بذور الفتنة التي انتهت بمقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقال: "فمن الحوادث فيها أن المنحرفين عن عثمان تكاتبوا للاجتماع لمناظرته فيما نقموا عليه، وتذاكر قوم أعمال عثمان، فأجمعوا رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلِّمه ويخبره بأحداثه، فأرسلوا إليه عامر بن عبد قيس، فدخل عليه، فقال: إن ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبتَ أمورا عظاما، فاتق الله وانزَعْ عنها. فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عامر، فجمعهم فشاورهم في أمره. فقال عبد الله بن عامر: إني أرى أن تأمرهم بجهادٍ يُشْغلهم عنك فلا يهمُّ أحدَهم إلا نفسُه، وقال ابن أبي سرح: أعْطهم المال تعطفْ عليك قلوبهم، وقال معاوية: تأمرُ أجنادك يكفيك كلٌّ منهم مَن قِبَله، وقال عمرو بن العاص: اعتدلْ أو اعتزلْ، فإن أبيتَ فاعتزم عزماً وامض قدُماً." (ابن الجوزي، المنتظم، 5/44).
كان عثمان رضي الله من الورع بحيث لا يسير في طريق الإلهاء -باسم الجهاد- الذي اقترحه ابن عامر، ولا طريق الإغراء الذي ارتآه ابن أبي سرح، ولا طريق القمع الذي اقترحه معاوية. فما كان عثمان ليستعمل الجهاد لمجرد إشغال الرعية عن التفكير في مظالم أمرائه، ولا ليستبيح المال العام لشراء الذمم والضمائر، ولا ليُهدر دماء الناس لمجرد مطالبتهم بتصحيح بعض سياساته أو تبديل بعض أمرائه.
كان عثمان رضي الله عنه خليفة راشدا، سار على نهج الخلفتين الراشديْن من قبله أبي وعمر رضي الله عنهما. لكنه عُمِّر طويلا بمعايير عصره، ومكث في السلطة طويلا، وأحاط به أقاربُ جشعون للمنصب العام والمال العام فــ"عَمِل بعمل صاحبيْه [أبي بكر وعمر] ستاًّ لا يَخْرِم شيئا إلى ست سنين، ثم إن الشيخ [عثمان] رقَّ وضعُف، فغُلب على أمره" (مصنف عبد الرزاق 5/477 بإسناد صحيح).
وشتان ما بين عثمان والمستبدين من بعده، فقد كان عثمان مستعدا لتصحيح كل الأخطاء والخطايا، حتى إنه قال للذي اشتكوْا من أمرائه: "إن وجدتم في كتاب الله عز وجل أن تضَعوا رجلي في القيد فضعوها" (مسند أحمد 1/544 بسند صحيح). لكن البطانة المحيطة بعثمان لم تكن مستعدة لأي تنازل أو تصحيح، وحتى نصيحة "اعتدل و اعتزل" -وهي أثمنُ نصيحة قُدمت لعثمان- كانت مجرد خيار، مع خيار آخر هو المضيُّ قدُما في السياسات التي تسببت في الأزمة ابتداءً.
لم يكن عثمان رضي الله عنه من القوة بحيث يسلك مسلك الاعتدال أو الاعتزال، ولا أتيحتْ له فرصة ذلك، فقد وقع في تقاطع النيران بين أقاربه المتشبثين بالسلطة والثروة، وجماعات من الدهماء والغوغاء التي لا تعرف معنى الطاعة الشرعية للسطة الشرعية، ولا تُقيم وزنا لوحدة الجماعة. وانتهى الخلاف إلى فوضى عارمة قُتل فيها عثمان شهيدا، وانفتح مسارٌ طويل من الفتن السياسية في تاريخ الإسلام.
وقد لاحظ كل من ابن تيمية وابن حجر ضعفَ عثمان رضي الله عنه وتردُّدَه في تلك اللحظة السياسية الحرجة التي تستلزم الحسم اعتدالاً أو اعتزالاً، ولا تتيح مساحة لأيِّ منزلة بين المنزلتين. قال ابن تيمية: "وأما عثمان فإنه بَنَى على أمرٍ قد استقرَّ قبله بسكينةٍ وحِلم وهدىً ورحمة وكرم. ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياستُه، ولا فيه كمالُ عدله وزهده، فطُمِع فيه بعض الطمع، وتوسَّعوا في الدنيا، وأَدْخلَ من أقاربه في الولايات والمال، ودخلتْ بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمورٌ أُنكرتْ عليه. فتولَّد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال، ما أوجب الفتنة، حتى قُتِل مظلوما شهيدا" (منهاج السنة 7/452).
وقال ابن حجر: "وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه: كان بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبخراسان عبد الله بن عامر. وكان من حج منهم [من المسلمين في هذا الأقطار] يشكو من أميره، وكان عثمان ليِّنَ العريكة، كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل بعض أمرائه فيُرضيهم، ثم يعيده بعدُ." (ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة 4/458).
لكن معادلة الاعتدال أو الاعتزال لا تتحقق بمجرد قوة الحاكم وقدرته على حسم قراره بالإصلاح، وإنما تستلزم شروطا اجتماعية وثقافية، أهمها تحرر المجتمع من الجهل والخوف. وقد أدرك الكواكبي خلال تأمله في الجذور الثقافية للاستبداد تلك العلاقة الوثيقة بين الجهل والخوف من جهة، والخنوع للاستبداد من جهة أخرى، وتوصل إلى أن "العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف... وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال." (طبائع الاستبداد، 50).
ففي هذا النص يكشف الكواكبي عن قانونين من قوانين الاجتماع الإنساني. أولهما: أن جذور الاستبداد ترجع إلى جهل المجتمع وخوفه من سطوة الحاكم المستبد، وثانيهما: أن تحرُّر المجتمع من هاتين الآفتين يُرغم المستبد على تصحيح المسار والنزول عند إرادة المجتمع. فإذا استحكمت الأزمة السياسية في أي مجتمع، ثم تحرر ذلك المجتمع من الجهل والخوف، يصبح أمام الحاكم أن يسلك أحد سبيليْن لا ثالث لهما: الاعتدال أو الاعتزال.
أما الاعتدال فهو تصحيح المسار السياسي بطريقة تُعيد الأمور إلى نصابها. والتصحيح نوعان: تصحيحٌ في البناء يُعيد تأسيس السلطة على التراضي والتعاقد بعد أن كانت مبنية على الغبن والقهر، ويولِّي أهل الأمانة والقوة بدل أهل الخيانة والعجز. وتصحيحٌ في الأداء يتخذ القرارات التي تُنصف المظوم من الظالم، ويحقق الحرية والعدل في حياة المجتمع.
وأما الاعتزال فهو تخلِّي متولِّي المنصب العام عن المنصب، بعد أن يتبيَّن أنه تقلَّده بطريقة غير شرعية، أو أنه ليس أهلا له أخلاقيا وعمليا. وقد يكون الاعتزال طوعاً، وهذا أمر نادر في التاريخ السياسي، ففتنة السلطة تستحوذ غالبا على قلوب الحكام فلا يتركون المنصب إلا راغمين. وقد يكون الاعتزال قهرا، بعد ثورة شعبية عارمة تسترِدُّ من الحاكم العاجز أو الخائن الأمانة التي بيده، وتعيدها لأصحابها من عامة الأمة.
فإن أبى الحاكم الاعتدال والاعتزال معا، أو منعتْه بطانتُه المتواطئة من ذلك، أو دخلت على الخط قوى فوضوية تعرف ما لا تريد أكثر مما تعرف ما تريد، انفتحت أبواب الحروب الأهلية. وهذا سبيل سلكه كثير من الحكام، حتى أصبح من دروس التاريخ المريرة أن الحرية لا تتحقق في كثير من المجتمعات إلا بعد حرب أهلية، تَكْسر معادلة القوة القائمة، وتُذيق الظالمين ثمنَ ظلمهم، وتحرر المظلومين من روح الخنوع، وتبني توازنا جديدا يُقيم السلطة على قاعدة التراضي والتعاقد، بعيدا عن منطق القوة وقانون الغاب. فهل يفكِّر حكامنا اليوم في "الاعتدال" طوعاً، ويُصلحون علاقتهم بشعوبهم قبل فوات الأوان؟ أم سيظلون سادرين في غيِّهم حتى يتعين عليهم "الاعتزال" قهراً فيندمون ولات ساعة مندم؟!
أستاذ الأخلاق السياسية ومقارنة الأديان
محمد مختار الشنقيطي
اعتدلْ أو اعْتزل! 1111