زمن الصوت الواحد والرأي الواحد والزعيم الواحد، انتهى وإلى غير رجعة. من يعتقد أننا مجرد قطيع أغنام، أو قولوا خرفان إلى وقت طلب الثعابين؛ فذاك شخص يبدو أنه مازال مسكوناً في حقبة الجماهير الرعاع التي يجب أن تفنى وتهلك في سبيل أن يبقي وينعم الزعيم القائد الملهم.
مثل هذه الديماغوجية التي سادت خلال الحرب الباردة وحتى سقوط جدار برلين، ومقتل ديكتاتور رومانيا الجنرال "تشاشيسكو" وعقيلته في الهزيع الأخير من عام ٨٩م على إثر اندلاع تظاهرة طلابية في جامعة العاصمة بوخارست؛ لم يعد لها ما يبررها الآن، وبعد أن سقطت كثير من الأقنعة، وكثير من الأنظمة القمعية الديكتاتورية، وكثير من الشعارات والمزايدات.
خريف عاصف لم يجتاح دول أوروبا الشرقية فحسب، وإنما وصلت رياحه العاتية إلى كافة نواحي البسيطة، فمن مذبحة ساحة "تيانانمن" وسط العاصمة الصينية "بكين" للمتظاهرين في يونيو 89م، إلى اقتلاع ديكتاتورين فاسدين في إندونيسيا والفلبين "سوهارتو وماركوس".
وحده الحاكم العربي الذي غالبا ما ينجو من العواصف أو الأزمات. لكنها نجاة لم تطل وقتا طويلاً مثلما ظن حكام جمهوريات الفقر والخوف، أو قولوا " ملاك الإقطاعيات العربية العائلية". فهؤلاء الطغاة الفاسدون استعبدوا مجتمعاتهم إلى حد أنهم غفلوا حقيقة أنه ما من إعصار أو زلزال إلا ويترك أثراً مأساوياً في الواقع وفي نفوس الناس وفي ذاكرتهم.
فحين استبد اليأس بالنخب الوطنية المعارضة وفترت همة المثقفين والمفكرين التواقين للتغيير السياسي في دولهم، داهمتهم بغتة موجة إعصار شديدة وعاتبة وفي شتاء قارس أطلق عليه مجازا "الربيع العربي".
نعم، انبلج الربيع وولد من شتاء طال أمده، وبعد أن خفتت عزيمة المجتمعات في إمكانية تحقيق الحرية والكرامة والعدالة، وبعد أن اطمأن الحكام المستبدون في أن الأوطان التي يحكمونها ما هيإلا إقطاعيات مملوكة يتشاطرونها مع أولادهم واقاربهم وأصدقائهم وليس لأن تكون ساحة للثورة عليهم والمطالبة برحيلهم ومحاسبتهم.
كيف لا؟ وملك ملوك أفريقيا القذافي قال لصديقه رئيس جنوب أفريقيا "جاكوب زوما" حينما توسط الأخير في محاولة لإقناعه بمبادرة: شعبي يعبدني عبادة، وهؤلاء الذين في بنغازي ليسوا ليبيين وإنما عملاء ومرتزقة".
للأسف الربيع العربي تأخر عقوداً عن موعده، ومع توق مجتمعاتنا وفاقتها الشديدة للتغيير الحقيقي الجذري الذي يمكنها من اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، هناك من يلعن تلك الثورات ويحملها تبعات الخراب والدمار والدم النازف في كل بقعة ثار مجتمعها على أنظمة حكم مستبدة ومتخلفة وفاسدة.
فبدلا من أن يحمل طغاة مثل القذافي وبشار وصالح ومبارك وزين العابدين والقائمة طويلة؛ مسؤولية القتل والخراب والدمار والإرهاب والفوضى؛ راح البعض ينسب ما حدث تارة لأميركا وإسرائيل، وأخرى بكونه مؤامرة دولية على الدول العربية التي طوال تاريخها غارقة بالفساد والعجز والهزائم والقمع.
لا أعلم ما الضير في أن تلتقي مصلحة المجتمعات العربية بمصالح دولية وإقليمي! ألم يقل ديفيد كاميرون- رئيس الحكومة البريطانية- أبان ثورة ١٧ فبراير في ليبيا أمام مجلس العموم: مصلحة بريطانيا اقتضت منا دعم الحكام العرب المستبدين، والمصلحة اليوم تفرض علينا نصرة المجتمعات وانتفاضتها على الحكام".
وزير النقل في كوريا الجنوبية استقال من منصبه العام الماضي نتيجة لغرق زعيمة تقل تلاميذ، ولدينا دراكولا حقيقي اسمه "بشار" وقتل نحو مليون سوري وشرد عشرة ملايين إنسان وخرب ودمّر حضارة وتاريخ عمره ثلاثة آلف عام، ومع كل هذه الجرائم القاصمة لضمير البشرية، مازال السفاح متشبثاً بكرسي ورثه عن أبيه، رافضاً قبول فكرة تنحيه ومغادرته السلطة.
كاتب خليجي له رواية أسماها "الربيع الأسود" ومعه كل الحق إذا ما وصم ثورات الربيع العربي بالسوداوية، فمثله ينطبق عليهم وصف الراحل أدوارد سعيد "خيانة المثقفين" أو أن خطأه في كونه يقف في المكان الخاطئ البعيد عن ملامسة أوجاع الثائرين.
أتعجب وأتحسر من تحميل الثورات وزر الخراب والدمار والقتل والدم! كأن ما يفعله بشار وصالح وقبلهما القذافي ومبارك وبن علي لهو شيء مشروع ويستحق الاحتفاء والتباهي به؟. لهؤلاء أقول: إن أجمل وأفضل ما فعلته مجتمعاتنا المقهورة المستعبدة هو ثوراتها النبيلة السلمية المتحضرة التي يجب أن تفخر بها أجيال الحاضر والمستقبل.. فإذا لم تثر مجتمعاتنا لإسقاط هؤلاء الطغاة الفاسدين السفاحين فعلام ستكون ثوراتهم إذن؟
محمد علي محسن
ثورات وطغاة وجمهوريات عائلية!! 1177