من الطبيعي أن لا يبقى البنك المركزي اليمني تحت سلطة المليشيا الإنقلابية بأي حال... وإبقاؤه تحت سلطتها في الفترة الماضية لم يكن من قبيل الغفلة والإهمال كما قد يفهم كثيرون، لكن المؤسسات المالية الدولية كانت تتحفظ على نقله إستنادا إلى تحوطات ذات طابع فني وإداري معتبر..
ولو أمكن إبقاء البنك المركزي محايداً ومستقلاً، بشكل معقول، لكان بقاؤه في صنعاء أولى للاعتبارات الفنية والإدارية التي كانت أساس تحَّفُظ المؤسسات المالية الدولية.. والحق فإن الحيادية والاستقلالية لم تتوفر للمؤسسات المالية والنقدية العامة في اليمن بما في ذلك البنك المركزي، بالشكل الملائم في أي وقت مضى، لكن الاستقلالية والحيادية في عهد المليشيا منعدمة تماما ..
قد يتذكر محافظو البنك المركزي السابقون والحالي، السادة السماوي وبن همام، والمحافظ الجديد القعيطي*، الجهد الذي بذلته اللجنة المالية في مجلس النواب معهم، عند مناقشة قانون البنك المركزي الذي صدر عام 2000، حرصاً على تضمينه كلما من شأنه ضمان أعلى قدر من الاستقلالية، لكن الحكومة كانت تعترض كل ما يبعد البنك المركزي عن هيمنتها، و ظلت تنظر إلى البنك المركزي باعتباره ليس أكثر من خزينة لها في نهاية المطاف..
من الناحية النظرية، تحقق في قانون البنك المركزي قدر معقول من الاستقلالية بالنسبة لدولة عالم ثالثية..
ومع حكومة الوفاق، استطاع المحافظ بن همام، مع تفهم وتعاون من وزارة المالية، ضبط السياسة النقدية، وكبح التضخم والحفاظ على قيمة العملة بشكل يجدر التنويه به، في وضع استثنائي مضطرب..
والشيء الذي لم يكن ضبطه ممكناً في أي وقت، هو ميزانية الدفاع والأمن التي لم تكن تخضع لرقابة أي من المؤسسات الدستورية.. وإذا كانت استقلالية البنك المركزي ضعيفة، و ربما غالبا غائبة فيما مضى، فإن الحديث عنها في عهد المليشيا ضرب من الإدعاء والافتراء..
تناقشت مرة بشكل شخصي مع قيادي كبير في وزارة المالية، معترضاً على تضخم موازنة الدفاع، التي بلغت حينها 24 % من الموازنة العامة، ورد بالقول: في الحقيقة قد تصل أحياناً إلى 40% من إجمالي الإنفاق الفعلي، وعلق: هنا لا نستطيع التحكم، على الرغم من المحاولات..
وكنت أفهم أنه كان يحاول جاهدا الترشيد ولم ينجح، كما حاولنا نحن في اللجنة المالية الإصلاح وكبح جماح المخالفات والإختلالات المالية وأخفقنا كثيراً..
وكان مما يثير الإحباط لدى متابعي الشأن المالي، ومن ذلك اللجنة المالية في مجلس النواب هو اعتماد موازنة يقرها مجلس النواب بقانون نافذ، وعند التنفيذ يتم تنفيذ موازنة أخرى خاصة في جانب النفقات الرأسمالية والاستثمارية.. وطالما اعترضنا على ذلك، عند نقاش الحسابات الختامية وفي تقارير اللجنة للمجلس، وأثناء نقاش الموازنة، ولكن أثر ذلك كان دون المستوى..
ذات مرة، تكلفت من قبل مجلس النواب برئاسة لجنة برلمانية لفحص حسابات المؤسسة الاقتصادية العسكرية، وأرسلت اللجنة المختصين لإحضار بعض البيانات قبل الزيارة الميدانية للمؤسسة، وتم صدهم وردهم دون إعطاء أي بيانات..
وادعت المؤسسة حينها أنها تابعة لوزير الدفاع، ولا يتصرفون أو يعطون معلومات إلا بإذنه ومعرفته، وخاطبناه مع أننا كنا على يقين أنه ليس معنياً بالأمر إلا من الناحية النظرية، إن وجد..
حينها قال لي الدكتور بافضل يرحمه الله: ( آنت مجنون..! هذا عِش دبابير، وطالما نُصحت بعدم الاقتراب منه عندما كنت وزيرا للتموين والتجارة ...!).. عُرض بعد ذلك أمر ما حصل مع المؤسسة الاقتصادية العسكرية على مجلس النواب، وكان هناك من يقول: لقد قلنا لكم..!
اقتصر الأمر بعد ذلك على تصريحات تبادلناها مع المؤسسة الاقتصادية في الصحف وقامت المؤسسة وقتها بحملة علاقات عامة غير مسبوقة، من ضمنها إعلانات في صحف معارضة..
قد أدعي بأننا قدَّرنا بعد ذلك بأن فبراير 2011 كان منقذاً من تلك الإختلالات وغيرها، ولذلك كانت مواقف كثيرين من تلك الثورة السلمية.. لكن المنية كانت قد أنشبت أظفارها، في عنق البلد، كما يبدو، وبدا أن كل تميمة لا تنفعُ، كما قال الهُذَلِي..
وهكذا جاء الاجتياح المليشاوي الغشوم ليجهز على البلد العزيز، ولكن عهد المليشيا لن يطول بحول الله..
في عهد المليشيا، أكثر من أي وقت مضى، لا يستطيع أحد، بما في ذلك المحافظ بن همام، التحكم أو الرقابة في نفقات الدفاع والأمن والمليشيا، وتبقى الإختلالات العميقة التي ظلت مرافقة للنظام المالي والمصرفي طيلة عقود، ثغرة كبيرة وثقباً أسود ينفذ منها الاستغلال و الخراب العظيم في عهد المليشيا، فضلاً عما أحدثته هذه الميليشيا من فوضى عارمة ودمار شامل..
كانت عدن عاصمة ومقراً لبنك اليمن، قبل 1990، وهي عزيزة مثل صنعاء أيضاً.. وكانت عدن مثل صنعاء حضناً دافئاً وأمَّا رؤوما وحنوناً لكل اليمن وأهل اليمن..
وقد رحب محافظها السيد/ عيدروس الزبيدي، بنقل البنك المركزي اليمني إليها.. وحيث تفتح عدن العزيزة ذراعيها لبنك بنوك اليمن، فهي أيضاً ستفتح قلبها ووجدانها لكل أبناء اليمن، حكومة وشعباً، مع التفهم للاحتياطات التي تحفظ أمنها من جهة، وأهمية اتخاذ الإجراءات والتدابير المسؤولة التي تبعدها عن مظنة الانعزالية والتوحش الجهوي المنافي لطبيعتها وتاريخها ودورها الوطني البناء، من جهة أخرى..
* سفير اليمن في الأردن
علي أحمد العِمراني
بنك البنوك في أحضان عدن!! 1402