من غرفة وثيرة، لا يعرف أحد أين هي، يطل عبدالملك الحوثي على جمهوره ومقاتليه الذين يشاهدونه في برد وفقر صنعاء وغيرها من المناطق، يطل ليحدثهم بشجاعة لا حدود لها عن تحديه للمجتمع الدولي والرأي العام اليمني والعربي، وهو الذي لم يجرؤ إلى الآن على دخول صنعاء، على الرغم من كونها أصبحت جزءاً مما يعده عبدالملك تركة قديمة لأسلافه.
يبدو أن الأمور تلتبس على الرجل الذي لم يغادر حياة المغارات نفسياً وذهنياً، على الرغم من أن مليشياته غادرت إلى صنعاء منذ وقت طويل. لا أدري هل فعلاً يعي هذا الرجل معنى أن كل السفارات المهمة في البلد تركت البلاد له ولمليشياته، معنى أن التظاهرات اليومية تخرج رافضة له ولأفكاره القروسطية التي تلتبس بأفكار دينية منحرفة، وتهاويم شعبوية لا وجود لها إلا في حكايات جدات أمثاله لأحفادهن قبيل النوم.
الكارثة أن عبدالملك لا يعرف معنى ذلك، وقد خرج متحدثه الرسمي ليعلن أن ذلك «لا يخيفنا»، وقال بعض أنصاره في غرور فارغ «إن السفارات التي رحلت بدون أسباب لن تعود إلا بشروطنا»، بينما استند أحد أعضاء اللجنة الثورية الحاكمة، التي أعلنتها جماعة الحوثية الدوغماتية المنغلقة، إلى الدين للتقليل من خطورة إغلاق السفارات قائلاً، إنه لم يكن على عهد رسول الله سفارة أمريكية، أو غيرها، وقدوتنا رسول الله، لا غيره.
يسعى عبدالملك بتذاكٍ مكشوف لكي يجعل من اليمن نسخة أخرى للنموذج الإيراني في البلاد العربية، فهو سلطة دينية في صعدة تعيش على أوهام التاريخ وهوامش الأسطورة، وابن عمه محمد الحوثي سلطة سياسية في صنعاء بعد أن ترك مهنته في بيع القات (وليس في ذلك عيب)، وأصبح فجأة رئيساً للجنة الثورية التي تحكم صنعاء في الوقت الحالي. لكن عبدالملك أقل ذكاء من قدوته حسن نصر الله الذي يحرص عبدالملك على أن يكون نسخة كربونية منه، والذي يتحكم بسلطته الدينية في «الضاحية»، يتحكم في السلطة السياسية في بيروت. رجل إيران في لبنان صبر سنوات طويلة إلى أن وصل إلى وضعه الحالي، بينما رجل إيران في اليمن حرق المراحل واستعجل الحصاد الذي بدأ يحصده رفضاً شعبياً وإقليمياً ودولياً. ولأن عبدالملك لا يجيد إلا قراءة كتب أبيه في «الفقه العنصري»، القائم على أن سلالة من السلالات انسلت إلى الأرض من السماء، لأن الطفل عبدالملك تشرب ذلك، فإنه عندما كبر أراد أن يتحكم في أكثر من 25 مليون يمني، بحكم أن أباه قال له ذات يوم إنه «مميز» عليهم. قلت مرة إن عبدالملك الحوثي لا يحمل أي مؤهل علمي، ولم يكمل الثانوية العامة، فرد عليّ أحد أنصاره بقوله: «سبحان الله، «ذرية بعضها من بعض»، كان جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمياً لا يقرأ ولا يكتب». فهل بعد هذا البلاء الذي أصبنا به من بلاء!
يتحفك الواقع أحياناً برجال يعيشون في التاريخ، لا يستطيعون مغادرته، مغادرته تعد – وفق ثقافتهم التي نشأوا عليها – ضرباً من الانسلاخ عن الهوية، نوعاً من الكفر، وخيانة للدين وأهل البيت، عبدالملك الحوثي واحد منهم.
الخروج من شرنقة التاريخ خيانة للتاريخ عند الحوثيين، ولو كان التاريخ الذي يستندون إليه جميلاً لربما ساغت محاولات عبدالملك للبقاء فيه، لكنه تاريخ دموي، قتل الإمام الحاكم فيه أخاه، وخرج على عمه بحجة أنه الأولى بالحكم والإمامة، في تسييس للدين، وتدنيس للمقدس. تاريخ دموي قتل فيه أحد أئمتهم قرابة مئة ألف من «الزيدية المطرفية»، حسب مراجعهم هم، وسبا نساءهم، واتخذ له إحداهن سرية، وانجب منها بعض من ولي الإمامة من أولاده. فيما غزا أحدهم بعض القبائل اليمنية، وأثخن في أهلها القتل، فقال له أحد الناصحين: ألا تخشى أن يحاسبك الله في النفوس التي قتلت؟ فرد عليه: بل والله إنني أخشى أن يحاسبني في النفوس التي لم أقتل.
هذا تاريخ يجب مغادرته فوراً، لأنه تاريخ يحض على التمييز العنصري، والفرقة المذهبية، ويخالف مبادئ حقوق الإنسان، وقيم التحضر المدني. تاريخ لم يعد يصلح سرده إلا لأخذ العظات والعبر والدروس والتجارب، لا لكي نمجد فيه أفعال المجرمين الذين سفكوا الدماء باسم الله والدين وأهل البيت، وغيرها من الشعارات التي ما انفك الحوثي يرددها اليوم، في إشارة إلى أنه سائر في الدرب ذاته الذي سار عليه الطغاة السابقون الذين حكموا شمال البلاد فترة طويلة، ولم يتركوا من مآثرهم شيئاً يمكن أن يذكر بتاريخ مجيد. هذا التاريخ – للأسف – هو الذي يعشش في مخيلة عبدالملك، الذي ليس لديه القدرة على اجتراح خيالات إبداعية، قدر ما لديه القدرة على أن يعيش الأوهام التاريخية. ولذا نراه يتمدد في المدن اليمنية متوهماً أن القوة العسكرية ستفلح في إحكام سيطرته على البلاد، ناسياً أن القوة العسكرية تبدأ عدها التنازلي للهزيمة في اليوم الذي تنتصر فيه.
عندما أتجول أحياناً في شوارع مدينة لندن، وأحدق في روحها، أقول لنفسي ليت عبدالملك الحوثي يخرج من مغارته التي لبد فيها خوفاً من مواجهة جرائمه، ليته يأتي في دورة ثقافية كالتي ينظمها لأتباعه إلى طهران، ليته يأتي ليرى كيف يعيش «الكفار» في أمن وسلام ومساواة وحرية وحقوق مكفولة لكل الناس من كل الأديان والثقافات والألوان. ربما يتغير عبدالملك لو رأى لندن، مع شكوكي بأنه سيحكم عليها من خلال مظهرها فقط، سيقول عنها إنها فتاة متهتكة لأنها تمشي نصف عارية، لن يرى فيها إلا جسدها، وسيعمى عن رؤية الروح التي جعلت من البريطانيين أمة من أعظم أمم التاريخ.
د.محمد جميح
الرجل الذي يقتات أوهامه 1727