خطبة الجمعة – على الأقل في نطاق جغرافي أقطنه – في الأغلب ألقت بغضبها على بدعة المولد النبوي.. كنت أود سماع موعظة تحدثني عن حُرمة قتل النفس البشرية. لاحظوا أنني قلت "النفس البشرية" وبالطبع يدخل في ذلك المؤمن والكافر والمشرك والملحد.
فكل هؤلاء خلق الله ولا يجوز قتلهم ما لم يقتلوا أو يبغوا أو يعتدوا، وعندما أستثني هنا فلا يعني بجوازية الاقتصاص من فئة أو جماعة أو طائفة وإنما بإيكال المسألة برمتها إلى الدولة وسلطاتها وقوانينها باعتبارها وحدها كفيلة بإحلال العدالة والنظام.
أعجب ما في خطبة الجمعة أنها آتية من ذات المنبع المتزمت المتطرف الأحادي، أنَّها من نفس المدرسة النجدية الوهابية المغالية جدا بتأويلها وفهمها للنص القرآني والحديث النبوي.. إنَّنا إزاء مذبحة بشعة فاطرة لضمير الإنسانية؛ ومع كونها كذلك تجد من يبرر الجريمة الشنيعة قائلا: رافضة.. شيعة.. خوارج.. صفوية.. مبتدعة.. لعنة الصحابة وعائشة".
وهكذا دواليك من المبررات المقيتة المستحلة للدم وبنهم متوحش هو أقرب للحيوانية.. مبررات واهية مضللة للأسف يتم تسويقها وإشاعتها بين العوام وكأنها مسلمات وحقائق ليست قابلة للشك أو الطعن بها بقدر ما يتوجب تصديقها والإذعان لها ولدعاتها الذين هم في هذه الحالة لا ينطقون عن هوى أو منفعة أو جهالة أو سياسية وإنما هم ينطقون عن وحي صاف نقي يستحيل رده أو مناقشته.
اليمنيون وإلى ما قبل اجتياح فقه "صحراء نجد" كانوا في المعظم يمارسون طقوسا صوفية.. صحيح أن في هذه الصوفية انحرافا وتشوها صاغته قرون من الممارسات الخاطئة في ناحية التبجيل للأموات والذي يتنافي مع المنطق والعقل, ناهيك عن الإذعان الجبان للحكام المستبدين، فضلا عما طرأ على هذا التصوف من ضلالات وأباطيل أضرت- ومن دون قصد- بصميم عقيدة التوحيد لله وحده ودون سواه.
ومع كل ما لصق بالصوفية, أجدها من جهة ثانية أفضل من الوهابية كمنتجة للأفكار السوداوية القاتلة للحياة الإنسانية.
أتذكر الآن كيف أن هذه الصوفية غرقت في لجة أباطيل وترهات ومكرمات وشعائر هي في محصلتها عدت منفذا لولوج الوهابية كدعوة حاملة للواء تصحيح العقيدة من شركيات صوفية لا تستقيم مطلقا مع حقيقة أن الإنسان وأياً كان نبيا أو وليا وتقيا يبقى في النهاية مخلوقا بشريا لا يجوز مضاهاته بخالقه المطلق المتفرد بخصوصية العبادة والدعاء والصيام والشكر والثواب والعقاب والحياة والموت وووو.
نعم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفذت إلينا من بوابة البدع والشركيات وأغلبها مثقلة لكاهل الصوفية التي وبدلا من إزالة ما رسب واستقر في ذهن العباد وفي تدينهم من اعتقادات خاطئة جاهلة ظلت على ما هي عليه مذهبا جاذبا مستقطبا لأباطيل وضلالات إضافية أفضت بدورها إلى اجتياح شامل للوهابية.
هذا الاجتياح لم يقتصر على بلادنا، بل وتعدى ذلك إلى مواطن كثيرة لم تكترث بماهية الكارثة المنتظرة سوى بعد وقوعها، فإضافة إلى اليمن هناك بلدان وصلتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المدعومة بثروة طائلة مكنتها من اختراق الحدود ومن الوصول إلى قلب روسيا شرقا والى أمريكا غربا فضلا عن أوروبا والهند وباكستان والفلبين وإندونيسيا ومصر والسودان والصومال وأفغانستان والقائمة طويلة.
نعم الصوفية تلاشت واندثرت لأنها أخفقت في مسألة تجديد ذاتها كمذهب وكطريقة غايتها نيل ثواب وفضل السماء؛ بل وعلى العكس دارت ظهرها مجللة للحكام الطغاة مهتابة من مواجهتهم، مبجلة منهمكة بمكارم الأموات من الأولياء والصالحين، وبمنح الأئمة قداسة وطاعة عمياء، وبالتمسح بالقبور والحج إليها وبإقامة الموالد وهز الرؤوس، وأكثر من ذلك إذ يتم ضرب الرؤوس والأبدان بالسكاكين خاصة في عاشوراء.
أحد غلاة محبة آل البيت خطب قائلاً: لو خُيرت ما بين الجنة وبين أن أبقي أبكي الإمام الحسين والله العظيم إنني سأختار البكاء على الجنة " مغالاة وصلت لحد القول بأن روح الحسين لم تمت إذ مازالت محلقة في الدنيا وإلى يوم القيامة.
الوهابية حتما ستنتهي من ناحية كونها لا تستطيع مجاراة فقه الحاجة والضرورة لحياة تختلف كليا عن حياة السلف، فمثلما نشأت وتمددت بعدئذ كدعوة مجددة مصلحة لما أفسدته الصوفية ها هي اليوم في خضم تلاشي واندثار إلَّا من مضامين قليلة تتعلق بتنقية عقيدة التوحيد من الأباطيل والضلالات.
حتما هذا العنف وهذه الأحزمة الناسفة، وهذه الخطبة الرعنة المستهينة بالنفس البشرية، وهذه الفكرة السلفية غير قابلة بالتجديد كقيمة أصيلة ومهمة لصيرورة الحياة، وهذه الأفكار المتصادمة مع نفسها ومع الأفكار الأخرى أحسبها الآن في غمرة اضطراب وفزع واستنفار لا يوحي بسواء النهاية المحتومة.
السؤال: ما البديل القادم؟ الإجابة: مازال في طور التخلق من الاثنين الوهابية والصوفية، الفكرة القابلة بالتعايش والتسامح مع الآخر محتوم ستكون البديل الناجع الذي بمقدوره إجلال الروح البشرية واحترام العقل الإنساني.
نعم.. لا جدوى من سلفية سقيمة جامدة أداتها البارود والانغلاق والموت والرفض وأيضا الخوف من كل فكرة عصرية محدثة. كما لا فائدة ترجى من صوفية ممسكة بطبول الموالد، ومن جماعة أسيرة معتقداتها الباطلة المغالطة المحتقرة لفطرة الإنسان ولذكائه وكرامته وعقله.
محمد علي محسن
أفكار عابثة خاطئة !! 1546