لم يعد منطقياً، اليوم، الحديث عن حرب مكافحة الإرهاب، والتي تشنها القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، في ظل ما بات واضحاً اليوم الدور الكبير والمشبوه الذي تلعبه هذه القوى، في إعاقة التحول الديمقراطي والانتقال السياسي، في ما باتت تعرف بدول الربيع العربي. وتفتح تطورات المشهد وتحولاته الدراماتيكية المتسارعة الباب واسعاً لجملة تكهنات واحتمالات وتفسيرات، متناقضة حيناً، ومتوافقة أحياناً أخرى، وجلها لا تبتعد كثيراً عن أن هناك سبباً جوهرياً وراء ذلك كله.
ثمة جملة أسباب رئيسية دفعت الظاهرة الإرهابية إلى التحولات المتسارعة والخطيرة، فمن جماعة الجهاد إلى تنظيم القاعدة فتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وتجعل هذه التحولات المراقب عاجزاً أمام تسارعها في التقاط خيوط تفاصيلها المتشعبة. ولسنا، هنا، بصدد البحث عن جملة أسباب، بقدر ما نبحث عن سبب وجيه ومركزي في تصاعد وتيرة العنف التي باتت تشعل المنطقة، وهي في طريقها إلى التحول إلى حالة دولية، أوسع مما هي عليه اليوم، بل الأخطر تحولها من حالة أمنية مطاردة إلى حالة دولتية، تتوسع وتسيطر على مساحة واسعة من الأرض، كما داعش في العراق وسورية، بعد أن كانت حالات فردية، منعزلة هنا أو هناك.
وطالما حذر مراقبون كثيرون من أن المقاربة الأمنية العسكرية المجردة لظاهرة ما يسمى الإرهاب ليست سوى عملية تخصيب ناجحة للظاهرة، تعمل على تكاثرها بشكل مخيف، وهو حال يمكن التقاطه بمتابعة مسار "الحرب على الإرهاب"، حيث بدأت الولايات المتحدة، بُعيد أحداث "11 سبتمبر"، حشد قواها وحلفائها والعالم، لملاحقة جماعة أسامة بن لادن في جبال أفغانستان. لكنها، اليوم، وبعد أزيد من عقد، غدت أمام حالة أوسع بكثير مما كانت تسعى إلى محاصرتها في جبال تورا بورا، فقد صارت للجماعات المتشددة دول وأرض تتحرك عليها وحدود تقاتل على أطرافها.
ما الذي حصل، إذن؟ ما حصل أن العقلية الأمنية العسكرية في التعامل مع ظاهرة ما بات يُعرف بالإرهاب ليست سوى النقيض الموضوعي للظاهرة الإرهابية نفسها، بمعنى أن العنف لا يولد إلا عنفاً، وهو ليس حلاً رئيسياً ومركزياً، وهناك مقاربات أكثر دقة في توصيف الأسباب والعمل على معالجتها.
بمعنى آخر، الاستراتيجية الأميركية لمكافحة الإرهاب، والقائمة على المقاربة الأمنية العسكرية، لا تختلف كثيراً عن إرهاب جماعة العنف، سوى أنها أكثر عنفاً وتنظيماً وتماسكاً. والارتكاز على مثل هذه المقاربة، وإغفال كل ما سواها من مقاربات، هو تكرار عكسي غبي لفكرة العنف نفسها. ولكن، بطريقة أكثر تنظيماً ورسميةً، والأخطر أنها تقوم على محاولة معالجة الظواهر على حساب معالجة أسبابها الحقيقية. ومن هنا، يمكن القول إن داعش ظاهرة وعرض وليست سبباً، أي لها أسباب أخرى موضوعية وذاتية، يجب مناقشتها وعلاجها، قبل الحديث عن ضرب داعش وتأليب العالم ضدها.
ما حصل للعراقيين السنة، طوال حكم نوري المالكي، يفوق الوصف، خصوصاَ مع قيامهم باعتصامات سلمية في الميادين والساحات، أزيد من عام، مطالبين بمطالب واضحة، من قبيل تعديل "قانون الإرهاب"، وإطلاق المتعقلين ومحاسبة المسؤولين عن ارتكب جرائم في حقهم. وقد جوبهت هذه المطالب بقمع شديد، تمثل باقتحام الساحات وقتل المعتصمين بدم بارد، وملاحقتهم أمنياً، وهم الذين عانوا، قبل ذلك، ويلات، من عصابات النظام الطائفي، قتلاً واغتصاباً وتشريداً.
ما حصل بعد ذلك، من تراجع للثورة السلمية، وتعاظم دور الثورة المسلحة وتحت شعارات عدة، كان تحصيل حاصل، في ظل فراغ سياسي مرعب، كانت تعانيه المناطق السنية التي عاشت حرباً طاحنة ضد الجيش الأميركي بدايةً، تحت مسمى المقاومة العراقية، ثم حرباً طاحنة تحت مسمى الصحوات، ضد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي عاث في تلك المناطق قتلاً، وها هي اليوم تخوض حرباً ضارية، هذه المرة، ضد نظام بغداد الطائفي. لكن، لم تجد هذه العشائر العراقية، التي قاتلت القاعدة، وانتصرت عليها سابقاً، تحت مسمى الصحوات، لإيقاف القتل والقهر والظلم الذي وقع عليها من حكومة المالكي وميليشياته الطائفية، سوى تحالفها مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
هذا التطور مآل طبيعي للأحداث التي ظل الغرب يراقبها عن كثب وعن بعد، وكأنه كان راضياً، كل الرضى، عما لحق بالعرب السنة من تهميش وإقصاء من شركائهم في العملية السياسية، الشيعة والأكراد. وكان في مقدور أميركا، تحديداً، أن تضغط على حليفها المزدوج، نوري المالكي، بعدم التمادي في إذلال خصومه السنة، والقبول بالشراكة السياسية معهم، لكنها كانت ترغب في تطور الأمور بشكل أكثر تعقيداً مما كانت عليه حينها، وأنتج ذلك التطور الخطير ما بات يُعرف اليوم بداعش.
وربما السيناريو نفسه الذي تمت رعايته في العراق وسورية، خلال العامين الماضيين، هو نفسه الذي يتم استنساخه وتكراره حالياً في اليمن، خصوصاً منذ ما بعد انقلاب 21 سبتمبر/ أيلول الماضي الذي أطاح حالة الإجماع الوطني، واستبدلها بحالة ميليشيوية طائفية، ستولد حتماً ارتدادات عكسية خطيرة وكارثية.
الاستبداد السياسي حجر الزاوية الذي انقدحت منه ظاهرة العنف، ثم تأتي أسباب ثانوية، تساعد في اكتمال تشكل الظاهرة العنفية. لكن، يبقى الاستبداد وغياب الديمقراطية، كناظم للمشهد السياسي في هذه الدول، بمثابة العامل الرئيسي في كل ما نشاهده، اليوم، من انفلات أمني واقتتال بعناوين شتى، كلها نتاج طبيعي للاستبداد السياسي المدعوم غربياً.
لنقف أمام المشهد بعناية، ولننظر ما الذي يجري، بعيداً عن أي حسابات أخرى، فداعش التي باتت، اليوم، خطراً دولياً يُحشد لمواجهتها العالم بأسره بقيادة أميركا، ليست سوى نتاج طبيعي للسياسات الغربية في العراق وسورية، تلك السياسات التي غضت الطرف عن الظلم والاستبداد الطائفي بحق شعبين عربيين، في العراق وسورية، فكانت داعش نتيجة طبيعية لمثل ذلك الوضع. ومن هنا، ليست مستغربة المواقف العربية التي تنساق مع هذه السياسات، وتتحول إلى صندوق تمويل للمشاريع الغربية الراعية لاستبدادها السياسي، الجاثم عقوداً على صدور شعوبها المقهورة، فبدلاً من تشجيع عملية الانتقال السياسي، والتحول الديمقراطي في العالم العربي، بدفع التجربة إلى الأمام، يحصل العكس. حيث تتورط بعض أنظمة عربية، غبية وغنية معاً، في تمويل مشاريع انقلابات عسكرية ضد أنظمة منتخبة ديمقراطياً، كما في مصر وليبيا، وأخيراً في اليمن.
ليتأمل الجميع الحالة التونسية، ولتكن درساً، كتجربة تحول وانتقال ديمقراطي ناجح، يجب أن تشجع وتدعم، فهي ستشكل نموذجاً عربياً فريداً، في حال تهيأت لها ظروف النجاح والانتقال بعيداً عن أي مكايدات وتصفية حسابات سياسية.
باختصار، حالة العنف ممثلاً بداعش، وقبلها القاعدة وقبلها جماعات الجهاد، نتائج طبيعية وموضوعية للسياسات الغربية الداعمة لإسرائيل وللأنظمة العربية المستبدة، السياسات التي تعمل على حماية تلك الأنظمة، وإطالة أمد بقائها، وهي بهذا ليست سوى سبب مركزي وأساسي في ولادة مشاريع العنف وتناسلها في المنطقة. وليست هذه السياسات وليدة ارتجال ومزاجية، بقدر ما هي استراتيجيات واضحة، تسعى إلى بقاء المنطقة رهن دوامة العنف التي من خلالها تجد مثل هذه القوى مبرراً لوجودها العسكري وتدخلها السياسي والأمني في بلداننا العربية، ولا سبيل إلى ذلك بغير الاستبداد، منتجاً حقيقياً للإرهاب، وبذلك لا سبيل لمحاربة حقيقية للإرهاب من دون التخلص من الاستبداد أولاً.
العربي الجديد
نبيل البكيري
مشكلتنا الاستبداد لا الإرهاب 1382