الفراغ مُهلك، فالحال أننا إزاء فراغ قاتل مستبد فينا ولدرجة الطغيان، فراغ لم يتم استثماره بعمل نافع ومفيد، وفوق ذلك فقر شديد للغذاء والدواء والتنمية وحتى العلم والمعرفة والخدمات الضرورية الأساسية كالماء والطريق والكهرباء والأمن ووووالخ .
فكثير من شبابنا المحبطين اليائسين أعدهم نتاج لهذه البيئة غير صحية أو سوية، فحين لا يعثر الشاب على فرصة للتعلم أو العمل المنتج الخلاق فإننا كمن يقذف به إلى منحى الجريمة والانحراف. الإنسان لا يخلق مجرما ومنحرفا وشريراً؛ وإنما الحياة وظروفها الاقتصادية والمجتمعية والثقافية هي من تدفع هذا الفتى أو ذاك إلى عوالم الشر والجريمة.
لطالما قلت بضرورة الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى.. ليس عيباً لأن نتعلم وننتفع من تجربة الصين في حربها الشرسة على زراعة وتجارة الأفيون، كما ولا أجد مبرراً واحداً يحول دون الاستفادة من دول سبقتنا في مضمار تحقيق العدالة الانتقالية أو الديمقراطية أو الفدرلة أو سواها من المسائل الملحة المؤرقة.
فهذه أوروبا الموحدة اليوم لم يمض على حربها المزهقة لقرابة خمسين مليون إنسان مدة نصف قرن، فضلاً عن ثمانية قرون سابقة لنهضتها، وتحديداً من القرن الثامن وحتى الخامس عشر، ومع كثافة الألم والوجع في تاريخ أوربا وأمريكا قُدر للمواطن فيها إثبات أفضليته من ناحية التعايش بسلام واستقرار ورخاء.
مبادئ ثلاثة غيرت وجه القارتين وشعوبها المختلفة المتنافرة عقيدة ولغة وجنسا ولونا ولغة، إننا نتحدث عن حق الإنسان في الحرية والحياة والمعتقد، وعندما نزعم أن هذه المبادئ بدلت الإنسان الأوربي الأمريكي وجعلته أكثر قيمة وأهمية وفعالية فذاك مرده الواقع وليس من بنات الوهم والخيال.
تأملوا جيداً كيف أن العمل والانجاز سمة لصيقة بكل أُمة متقدمة، وكيف أن الاستقرار حصيلة مجتمعات مستقرة اقتصاديا ومعيشيا وسياسياً وفكرياً، وكيف أن الإرهاب والعنف والاضطراب السياسي نتاج مجتمعات غير مستقرة اقتصادياً ومعيشيا وسياسيا وفكريا..
قرأت ذات مرة قولة مفادها إن الإنسان الجائع لا يكون مخلصاً لوطنه، يبدو أننا لا نشكو فقط من فاقة شديدة للغذاء والدواء وإنما تعدى الأمر للتذمر من فراغ فظيع لم يتم ملؤه بالعمل والإنتاج والتفكير المبدع الخلاق المتحرر من أغلال الوصاية والترهيب.
فراغ رهيب شغل الناس بجدل سقيم وعقيم كذاك الذي أضاع دولة بيزنطة وأهلها الذين غالوا بجدلهم حول أيهما الأولى بالخلق الدجاجة أم البيضة، فأضاعوا بلدهم وأنفسهم.. ما يجري الآن أعده نتاجاً طبيعياً لحالة خاملة جامدة متوقفة لا نعلم منتهاها..
إرهاب وفقر وتناحر وعنف وتخريب ونهب وفساد وسواها من الأفعال الهمجية الضاربة لصميم الدولة والنظام والتحضر، فكل هذه الأشياء حاصلة ليس لأن اليمنيين أناس همج ومتخلفون وبرابرة؛ ولكن لأنهم ضحايا لغياب الدولة والنظام، الذي بإمكانه إلهامهم وقيادتهم وتوظيفهم، كما ويكون بمقدوره حمايتهم وصيانة حرياتهم وحقوقهم ومعتقداتهم الفكرية والدينية.
سأل الممكن المستحيل: أين تقيم؟ فأجابه: في أحلام العاجز. قوله صاحبها شاعر الهند "طاغور"، الواقع يؤكد كم هي حياتنا زاخرة بالعجز والإخفاق والجدل العقيم والخوف من الغد والدم النازف بغير حق.
فراغ قاتل ومدمر لكل شيء في الحياة دولة ونظاماً وتعايشاً وإنسانا وتنمية واستقرارا وتفاؤلاً، فكلما زادت واتسعت مساحة الفراغ كان ذلك على حسابنا جميعاً كأناس استبد بهم الاستبداد والفساد والإحباط والتشاؤم والقتل والعبث ولدرجة بات معها الكلام عن المستقبل الأفضل وكأنه كلام نظري عبثي أو قولوا مستحيل..!
محمد علي محسن
لا أحلام للعاجزين واليائسين ! 1408