إغلاق المسجد الأقصى الذي جرى الخميس 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في أعقاب إصابة الحاخام الصهيوني المتطرف يهودا غليك، هو الأول من نوعه منذ قيام دولة الاحتلال.
رغم ذلك فهو لم يكن منفصلا عن البرنامج التدريجي الضخم الذي تنفذه السلطات الصهيونية منذ عقود، لكنه تعزّز بصورة كبيرة في آخر عشر سنوات، ثم توقف بحذر خلال حركة الربيع العربي، وعاد بقوة غير مسبوقة بعد حصار الربيع وإسقاطه خاصة في مصر، بعد فقدان كامل التوازن النسبي الذي تصاعد في عواصم رسمية بعد الثورات قبل سحقها.
وهذا يعني أن حسابات تحريك المشروع الصهيوني المعلن عنه موسميا وسنويا لتقسيم أو هدم المسجد الأقصى في الاحتفالات الدورية للهيكل المزعوم، وتصعيد هجومه على المصلين وعلى الحرم القدسي، كان ضمن توقيت دقيق لتل أبيب لاستثمار هذه الأجواء المتصاعدة الخانقة للوضع العربي وحرية الشعوب، وخاصة في ظل إشعال حرب التحالف الدولية والهدف المشترك الذي يتجاوز داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) إلى تعزيز حصار كلي سيصنع فوضى عشوائية أو مخططة لخريطة المشرق العربي.
وهو واقع يعززه التوافق الثلاثي بين واشنطن وحلفائها والمشروع الإيراني الطائفي والنظام الرسمي العربي المساند لهذه الحملة المستعرة في جغرافيا الربيع المستنزف والمحاصر، ولذلك التقطتها الحركة الصهيونية المُنظِمة لسياسات وأحزاب وحركات إسرائيل المتعددة في داخل فلسطين المحتلة وخارجها في دول الإسناد الغربي وخاصة الولايات المتحدة لتتعامل مع هذا الواقع العربي بدقة في دحرجة زحفها لهدم أو تأميم المسجد الأقصى.
كما تبني أيضا على واقع حصار غزّة وما بعد العدوان عليها، وما تعيشه القضية الفلسطينية من دائرة ضغط شديد لمحاصرة فكر المقاومة وشعبيتها التي تمددت وتطورت في ظل صعود مشروع الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عبر حماس، كما أن للمشروع التوافقي دورا متزامنا في خنق العمل الإسلامي ومطاردة منسوبيه اليوم في الوطن العربي والتضييق عليهم في تزامن دقيق مع قضية استهداف المسجد الأقصى وصعود الدفع الصهيوني لاستهدافه.
وأمام هذا الضغط قد يبدو لكثيرين من داخل العالم الإسلامي أن هذا الحصار الشرس والزحف على المسجد الأقصى وتطويق وخنق الحريات واستهداف الإسلاميين يسير في اتجاه واحد وهو الحرب الكبرى في الوطن العربي والشرق الأوسط، وهي قضية مرتبطة لديهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معركة فاصلة بين اليهود والمسلمين شرقي النهر (الأردن) وغربيه (الضفة الغربية)، غير أن هذا النص وغيره لا توجد له دلالة قطعية ولو كان قطعي الثبوت، والأصل استفراغ الوسع المادي لتحقيق النصر ورد الاعتداء بعد التوكّل وليس ربط أحداث قد تكون تكررت وممكن أن يسقط عليها معنى الحديث النبوي الشريف في فترات سابقة أو لاحقة والله أعلم بها.
لكن الغريب أن فكرة الحرب الكبرى ليست فقط لدى المسلمين والذين يرون سياقاتها متواترة ميدانيا وعيانا، ولكنها موجودة في محور التحليل السياسي الغربي وقلقه، فضلا عن النص الديني لدى جماعات مسيحية ويهودية تؤمن بحتمية هذه المواجهة، وهنا نحن نطرح هذا المسار في إطار التحليل السياسي المرصود، وأهمه تصريح نتنياهو رئيس حكومة الكيان الصهيوني بعد إغلاق الأقصى ورسائل الغرب القلقة عن الفوضى العامة في الشرق الأوسط ومحاولة تطمينه لهم واتهام الفلسطينيين بذلك وليس سياسات حكومته.
والمقصود أن نتنياهو اعترف بهذه الفكرة وتعامل معها، وهي أن قضية المسجد الأقصى وخصوصيته الاعتبارية المقدسة لدى المسلمين وفي ظل هذه الأوضاع قد تخلق ما سماها فوضى عامة تسقط معها مصالح الغرب كما تغرق الشرق بأحداث كبرى، وتجنب أن يُصرّح بالمعنى الخاص الذي يخشاه وتقلق منه واشنطن وهو سقوط أو تحييد الأنظمة المحيطة بفلسطين وغيرها والوصول الواقعي إلى مرحلة الحرب الكبرى، وشدّد على أنه يفهم هذا السياق ولا يريد أن تصل الأمور إليه، وهو يسترضي واشنطن.
في المحصلة المهمة لهذا الموقف وموقف الغرب وخاصة الإدارة الأميركية، نجد أن هناك استشعارا كاملا لواقع الضغط والانفجار في الوطن العربي كما هو واقع مشروع الزحف تنفيذيا لتأميم أو هدم المسجد الأقصى، الذي تسعى الحركة الصهيونية لتنفيذه خلال هذه الفترة الزمنية للعشر سنوات القادمة بدءا باقتطاع كنيس لليهود من أرضه المقدسة.
والقياس الذي تعاملت معه تل أبيب وواشنطن لم يأخذ الصورة الساكنة نسبيا للشارع العربي بعد عدوان الإغلاق، بل تعامل مع هشاشة هذا السكون لاحتمالية الانفجار خلفه رغم حركة التطويق الشرسة الرسمية له، وهو ما يعني أن الغرب وتل أبيب يبصران حالة الاختناق والقهر العربي رغم التوظيف للمؤسسة الرسمية ضد الحريات الداعمة لاستقلالها ولفلسطين، ولذلك تعود سلسلة التدحرج الصهيوني للمشروع لدروات امتصاص الغضب ثم الحفر السياسي والتنفيذي لتحقيق تأميم المسجد الأقصى وحلم الصهاينة في الهيكل.
غير أن هذه الصورة التي يسعى الغرب وتل أبيب لتركيبها بهدوء، لا توجد لها ضمانات حقيقية، وخشيتهم من فوضى شاملة تصل للحرب الكبرى باتت موضوعية في سياق التحليل السياسي لكن ليس كما يشتهون بالضرورة في الختام، وحالة الغبن والقهر في الوطن العربي لا تزال تشكل عاملا متحركا نحو الحدث.
كما أن مشروع الحركة الإسلامية في فلسطين عبر حماس وحركة الشيخ رائد صلاح والمهجر، وما أنجزته من رابطة أممية ضخمة مع العالم الإسلامي وشعوبه من المتدينين وغيرهم ومن العرب والعجم، ومن محيط التطوع الإنساني، بات مشروعا قائما بالفعل، ليس من السهولة أن يُقهر فضلا عن أن يُصفّى.
إن المهمة المركزية التي قررتها حركة حماس عند تأسيسها عام 1987 بعد قرار استقلالها عن التنظيمات الإسلامية في الأردن ومصر وصناعة مشروع مستقل ومرتبط بكيان فلسطين وشعبه وأرضه ومتحد مع الأمة جغرافيا وديمغرافيا في رابطة الوجدان والانتماء حول الأقصى، قد تحققت بالفعل وبشراكة مع جسمها الضمني في الـ48 وأبناء المهجر، وأضحت قوة مترابطة، لم تخسر من عدوان غزة الأخير، ولن يكون من السهل على سلطة رام الله اقتلاعها لو أقدمت على نقض المصالحة المتوقع.
إن المشروع المركزي لصناعة بنية تحتية لفكر وثقافة وشعب المقاومة، قد تحقق بالفعل بين فلسطين ومناطقها وبين العالم الإسلامي، وعليه فإن مهمة التحرير اليوم للمسجد الأقصى، تم تأسيس بناء إستراتيجي لها عجز الإسرائيليون وحلفاؤهم عن تحطيمه، كواقع يرصد، وهذا لا يعني عدم التعرض لحالات من الحصار والقهر والتطويق له في داخل فلسطين أو من يمد العون لها من عمقها العربي الإسلامي، بل هذا واقع نعايشه، لكنها محاولات لم تصل للجذور والقواعد التي تحققت، وهو ما بات مهمة واضحة لكل من يريد دعم الشعب الفلسطيني وتحرير الأقصى فعرف عنوان الدعم الذي يوقف مشروع الهدم ويحوله لمشروع تحرير، متى وكيف قد لا يتضح، لكن المسار إليه جلي لمن يبصر.
وهذا ما يخشاه نتنياهو في تطميناته للبيت الأبيض، وما يُحس به في داخل أعماقه وينكره لسانه، تماما كما يستشعره المستوطنون الذين يدفعون بكل قوتهم لإخراج كل فرد من المقدسيين أهل الأرض لمئات السنين لصالح غزاة متوحشين، يسكنهم فزع الغريب، الذي يشعر أن الأرض لم تستقر تحت أقدامه رغم رتل الدبابات فوقها، فالجذور تعود إليه لتقتلعه من جديد، فيسعى بكل قوته لهدم الأقصى كونه الرمز لحسم احتلاله الذي قد يفتح الباب لاقتلاعه وزوال مشروعه.
الجزيرة
مهنا الحبيل
الأقصى بين الهدم والتحرير 1112