أتساءل دوماً حول تلك المنابر السياسية العريقة في دغدغة حواس الشعوب وعجزها عن إيجاد طريقة ملائمة للخروج من أزمة الخطاب الحسي إلى فضاء التفاعل الحدسي الذي يجب أن يتعامل به شعوب الأرض مع حكام بهذا الحجم من الحذاقة طالما وأن تلك الشعوب بذلك القدر من السذاجة! تلك المنابر التي يتسلط أربابها على المفردات الرنانة لدرجة أن يشعر المرء أنهم يمتطون صهوة المفردات تلك ويطوعونها كما تطوع الحملان.. لكن المتفحص بنظرة الخبير يجد أن تلك المنابر سرعان ما تتحول إلى مقابر موحشة تضم رفات أربابها حتى تتحطم ضلوعهم تماماً كما كانت تتحطم ضلوع معتقليهم في زنازين الحكم العسكري! منابر اختفت ولا زالت معالمها تماماً كما تختفي المقابر تحت التراب, فهل سيكون لتلك المنابر المثقلة بأوزار الشعوب برزخاً؟!.
إن ذلك العهد البائد من عمر الخطاب السياسي الرصين قد ولّى إلى غير رجعة بعد سقوط تلك المنابر وانهيار أركانها وتهافت أعوانها على رفاتها كتهافت الكلاب على أكوام الجيف النتنه.
لم يعد بين شعوب العالم من يستوعب ذلك الخطاب الأفلاطوني المطعم بفلسفة الترغيب والترهيب والذي يصور واقع الشعوب المطحونة كملاحم تاريخية منفردة. ما من دولة عربية أو إسلامية إلا وهي تشهد اليوم انهيار هيكل الخطاب السياسي وسقوطه في بئر الوصولية وانتهاز الفرص الطازجة لتمرير خطط ومشاريع مبيته منذ لحظ احتساء خمرة الحكم والسلطة وحتى تقيؤها على رؤوس الشعب في شكل جرعات وأزمات مخططة ومحكمة.
لم يعد هناك منابر سياسية في أوطاننا العربية بعد ثورات حمراء شرهة أكلت أخضر الأمر ويابسه, ولم يعد هناك حكام برونزيون بأعراف حمراء وحواصل محشوة بالحُب!.
بل أصبح هناك شعوب متحوصلة وسياسات مطاطية ومساحات إنسانية قابلة للطي, أصبح هناك مواقف دولية ومحلية مقولبة لكنها أكثر تكيفاً مع واقع شرس عجزت تلك الفرص التوافقية عن احتوائه رغم أحقيتها بالاحتواء وتقديم الوطن على أي قضية أخرى مهما كان حجمها.
ألطاف الأهدل
منابر ومقابر!! 1330