كُنَّا جلوساً حلقة من المثقفين والمبدعين على مقهى في شارع قصر المنصورة حيث التَّجمع اليومي الذي نتداول فيه الأخبار والآراء والأفكار وكانت آخر عبارة نطقها صديقي الفنان المسرحي ستتغلب "الحكمة والإيمان" إن شاء الله وإذا بأحد المارة يزجُّ بنفسه في حوارنا: ماذا تقول يا أخ؟ أي حكمة؟ أي إيمان ونحن في صراع مصالح وننتقل إلى صراع مذاهب وطوائف ونتكتُّل مع نافذين ضد الوطن؟ إنني على يقين أن الجميع لا يحبون هذا الوطن ولم أشاهد أو أتلمَّس مواقف مشرِّفة تؤكد حبهم للوطن, ردَّ عليه صديق الجميع فقال: عندما أقول الجميع أقصد الأطراف ذات التأثير على المشهد في البلد وغيرهم لا حولا لهم ولا قوة مواقفهم الوطنية إن وُجدت فلا يعيرها أحد اهتمام.
وذهب الرجل ويبدو عليه الإهمال في منظره تعبيراً عن التشاؤم الحاد الذي ينتابه وبدأنا نفكر في ما قاله والذي يستدعي أن تُلغَى من قاموس اليمنيين أنهم أصحاب حكمة وإيمان, فقد أصبحت هذه العبارة تاريخ من الماضي لم يحافظ عليها أهلها, إذا أخذنا السلوك السائد منذ خمسين عاماً فقد صار اليمنيون فيهم داء التآمر والدَّس على بعض وفقدوا شرف الكلمة, ولا نذهب بعيداً منذ الوحدة اليمنية المباركة كل ما وقَّع اليمنيون على اتفاق وتوافق كمخرج لأزماتهم يتعمَّد طرف الانقلاب على كل ما يلتزم به؛ فيقولون عنه "شاطر, سياسي" وهو فاقدٌ لشرف الكلمة والعهد إلى هذا اليوم ومعه مثقفون يعملون مقاولي ترويج له وهد للاتفاقات وتعزير للشركاء, هذه سياسته منذ أن عرفناه يدسُّ ويفرِّق ويمزِّق وينقلب.. أي حكمة بهذا السلوك الذي سمم المجتمع وبرز كسلوك فقد اليمنيون بسببه الحكمة والإيمان؟!
وبرز لدينا فتى السبَّابة الذي يظهر على التلفاز ليقلِّد غيره يحرِّض ويهدد ويتوعد من شاشات التلفاز لم نشاهده دون حراسات مدجَّجة ومشددة ومواكب مصفحة ولم نلاحظه في اجتماع رسمي مع قيادة البلد بل هو زعيم ديني روحي حرام أن يجلس على طاولة السياسة بل مُحلَّل له رفع سبابته ليشتم بها من يريد ويلوِّح باستخدام العنف والسلاح لضرب من تسوِّل له نفسه اعتراضه, يتحدث عن الدولة وهو ينهبها ويعيقها ويدمِّرها, يخاطبنا بالأمل القادم الدولة المنشودة وهو يستدعي القبائل من كل جبلٍ وتل وكهف ليتصدَّوا لهذه الدولة ورموزها, يذهب إلى أراضي الآخرين يبحث عن خصومة وإذا تصدَّوا له صنَّفهم بِتُهَم عدة, أبرزها إرهابيين وحكم عليهم بالموت, هذه هي حكمتهم وإيمانهم.
يتصارعون مع من لا يختلفون عنهم شكلاً ومضموناً, فهم وجهان لعملة واحدة.. من فقدوا الحكمة واستغلوا لإيمان وهم يسيرون على نهجهم وفي طريقهم للسقوط مثلهم.
أما الجنوب وهو الحضن الدافئ لي وفيها مولدي ونشأتي ومنها الأمل القادم لكن ما يُغضبني أن يتنكر البعض لهويته ولأصله والتاريخ والحضارة وذلك بفقدان الحكمة والإيمان .
ومن لايزال محتفظاً بـ"الحكمة والإيمان" والكلمة الصادقة والنوايا الحسنة موجودون ولكنهم مجردون من قوة العبء الذي يفرضونه عليهم واقع لأنهم يملكون أدواته التي تدمر كل شيء بما فيها الآخر, لا ينصاعون لقوانين الخير بل يفرضون قوانينهم الشريرة؛ لهذا فأصحاب الحكمة والإيمان يحاولون تطهير الواقع من قوانينهم الشريرة وثقافة العنف والتمترس خلف المليشيات المسلحة وفرض الأمر الواقع؛ لكن الصراع يحتدم والمال المشبوه يضعف النفوس المريضة ويزعزع العقول وتنحرف الأفكار وتشترى الأقلام وهنا تغيب أيضاً الحكمة والإيمان .
الحكمة والإيمان تحتاج لمن يدافع عنها ويتحالف حولها ويدفع بها إلى الصدارة ليفرضها واقعاً وسلوكاً عاماً, غالباً تحتاج إلى عقول صلبة مؤمنة لا تزعزعها الأموال والإغراءات للجاه والسلطة ونفوس طاهرة مسامحة ووطنية بدرجة أولى نفضت عن كاهلها الأحقاد والضغائن, أي أن الشعب كل الشعب يجب أن يعي مصالحة وهمومه ومعاناته ويصطف حول بعضه بعضاً ويترك كل هذه القوى التي دمرت وستدمر ما تبقَّى من وطن, حينها سنكون شعبَ الحكمة والإيمان وسنبني دولتنا المنشودة نحو الأمل القادم.
أحمد ناصر حميدان
فقدان الحكمة ولإيمان 1601