دورة الحصار الجديدة التي يعيشها الوطن العربي في حرياته وبنائه الوطني المستقل تشتد مباشرة على الفكر الإسلامي وحاضنته التاريخية في التشريع الإسلامي السُّني الراعي لشراكة الاعتدال والمساهمة الثقافية والحضارية للمدارس الأخرى على مر التاريخ.
فيبدو المشهد العام حربا مركزية لأقوى ثلاثي يهمين على مقدراته أو يخترق البناء الاجتماعي العربي اليوم، يتعلق الأمر بالقرار الدولي ومصالحه الكبرى في إخضاع الشرق واستمرار تدفق ثرواته إليه واستخدام الجغرافيا والمدار اللوجستي له، ونظام النفط العربي ومصالحه المناهضة بشراسة لأفق الحريات والإصلاح السياسي وخيارات الدولة الدستورية المعاصرة، وأخيرا أطماع الشريك الإقليمي المتنفذ في المنطقة كنظام سياسي في طهران وكشبكة بناء طائفي سياسي ممتدة على أقطار الساحة العربية والشرق الإسلامي.
وأيا كانت مبررات هذا العمل التحالفي وتقاطعه الأخير ومساحة الصراع في داخله، فإن الواقع على الأرض يثبت أنه دخل في مراحل الفعل التنفيذي المحاصِر للقوى الإسلامية التي تحمل آمال الحريات، أو شركائها في المنظومات الفكرية العربية التي لا تزال تتمسك بمسار الحرية والدولة المدنية الدستورية، والشراكة مع الإسلاميين، في حين تحولت جماعات ثقافية أخرى، من التيارات العربية المتعددة، إلى رفض هذه الشراكة ولو أدت إلى خدمة الحلف الثلاثي بتحويل أوطانها لأرض محروقة.
ومن الواضح أن إعلان استهداف الجماعات المتطرفة التي نُسبت للمدرسة الإسلامية الكبرى لأهل السُّنة يُستخدم لحصار الإسلاميين السلميين، بل وحتى الديمقراطيين، والحقيقة أن الغلو نبت في ظل إقصاء التشريع الإسلامي السني عبر السلفية الطائفية، التي مارست تطفيفيها وعزلها للجسم السني ذاته.
لكن في المحصلة نُسبت هذه الجماعات إلى العالم السُّني، وبدأت آلة الحرب تضرب في أرضه وحواضنه المدنية، في ذات الوقت الذي يرعى فيه العالم الغربي ويقبل شركاءه العرب، شراكة الدولة والجماعات المنتمية للطائفية الشيعية والتي مارست الإرهاب والوحشية التي لا تقل عن جرائم داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) أو جماعات الغلو في الصومال وبلدان المغرب العربي، مع التأكيد على ما يتعرض له مدنيو طوائف عديدة من عنف واضطهاد، وأن هذه الحروب لا تعكس تأمينا ولا وحدة اجتماعية وطنية لكل الشعوب العربية، بل تُكرس الصراع والانقسام والفوضى.
هذه الحصيلة مع دورة قهر في بلدان الربيع العربي وغيره، بدأت تتفاعل في الوجدان الإسلامي وبات رصد تأثيرها حاضرا، مع بروز السؤال الكبير: ما جدوى العمل السلمي والالتزام بالكفاح الديمقراطي بعد أن خان شركاؤه وأيد كثير منهم ذبح الإسلاميين؟ والخطورة تتعاظم في أن هذا الأسئلة تنطلق في دول ومناطق لم تندلع فيها حتى الآن حرب عسكرية أو مواجهات عنيفة من المتظاهرين، بل لا تزال تحت قمع الطرف الواحد وهو السلطة.
وهو سؤال صعب في ظل واقع مرير وحجم من الغبن تجاوز كل أوضاع الاستقرار الاجتماعي النسبي في المنطقة العربية منذ إعلان الاستقلال لبلدانها، ومن المؤكد أن عملية نقض الربيع العربي هي المسؤولة أولا عن ذلك، لكن الاندفاع إلى خيارات أخرى هو بعدٌ خطير لا تضمن نتائجه ولا يُعرف أين يتجه بهذا الوطن أو ذاك، خاصة في ظل وجود مسؤولين لا إشكالية لديهم في الذهاب إلى آخر مجال للقهر الشعبي وسحق الإسلاميين حتى بحرب أهلية أو انفجار للدولة والمجتمع بعد توريط الجيش وغمسه، بينما ينتقل هو بثروته لأحد المنافي.
إن فكرة الكفاح المسلح تواجدت في صدر التاريخ الإسلامي لاسترداد العدل والشورى من استبداد الأمويين وانتشرت في عهد العباسيين لكثرة مظالمهم رغم استقلال هذه الدول عن التدخل الغربي وتمتع فترات منها بأوضاع جيدة في عدة مسارات.
ورعى هذا الكفاح أئمة متقدمون كالإمام أبي حنيفة ماديا، بينما رعاه معنويا أئمة لا يحصرون، وانتهى الإمام النووي إلى نقل موقف الجمهور على منع الكفاح المسلح لكون آثاره أضرت كثيرا بمجتمعات المسلمين كما أن حركة العدالة لم تتمكن من تحقيق البديل، ومع معرفة تحفظ بعض العلماء على ما نقله الإمام النووي إلا أن دلالات هذه الحصيلة تُعرف واقعيا.
وفي سياق التاريخ المعاصر تبنت الحركة اليسارية اللاتينية مسار الكفاح المسلح لتحرير بلدانها من القهر الرأسمالي العالمي للولايات المتحدة والغرب الذي كرس على بلدانهم حكومات تتبع هذه السياسات وتُعزز القمع لرعايتها، لكن حصيلة وضريبة الكفاح المسلح كانت عالية، وإن كان من غير الممكن أن نستبعد تأثيره على مصير الديمقراطيات اللاحقة التي تعيشها دول عديدة في أميركا اللاتينية انتزعت حقها الديمقراطي دون وصاية واستثناء غربي.
لكن الكفاح اليساري الذي تغير أيديولوجيا كثيرا بممارسة المسؤولية السياسية، قطف ثمار مشروعه عبر إرادة شعبية وصناديق انتخابية بعد مسيرة للكفاح المسلح والاجتماعي، والكفاح الاجتماعي أي النضال المدني دون السلاح هو أبرز محطة سبقت النصر السياسي في أميركا اللاتينية، التي تواجه اليوم تحديا صعبا لحمل هذا الإرث وتحقيق المعيشة الكريمة لشعوبها، جعلتها تفكر واقعيا بصورة واسعة بعيدا عن شعارات الأيديولوجيا.
ومن الصعب وضع تصور حاسم للمقارنة أو المقاربة بين ما يجري في الوطن العربي وتجربة أميركا اللاتينية، حتى مع تشابه وتطابق بعض المسارات، لكن في كل الأحوال فإن خيار إعلان الكفاح المسلح ما زال يحمل من المخاطر أكثر مما يحمل من الآمال، نقول ذلك في ظل صمود أكبر حركة إسلامية وهي الإخوان المسلمون في مصر أمام هذا الضغط الهائل رغم كل ما عُرف عنها ولا يزال من نبذ العنف.
ولكن الحركة في مصر وغيرها تعاني من تغييب أو قهر قادتها في داخل السجون بعد تصفية الآلاف منهم قتلا أو سجنا أو نفيا، مع استمرار ذات التحالف العلماني في تهميش ضحاياه وعدم الاعتراف بهم، بعد أن انفض حلفه مع العسكر، وهو ما يعزز مخاوف تفكير بعض الشباب للخروج كجناح خاص وهذا مستبعد، أو التحول كليا عن فكر الجماعة وإعلان توجه أيديولوجي جديد يستلهم من أحداث العالم الإسلامي ومواجهات القاعدة وداعش نهجا جديدا. وليس مستبعدا أن تتحول دول أخرى إلى ذات النمط حين يكتمل مشروع إقصاء الإسلاميين فيها.
ومع سماع صوت هذا التوجه وإن بدا خافتا فإن هناك صوتا آخر في مجمل الوطن العربي يطرح سؤالا آخر، والسؤال ليس في مصداقية ظلم الإسلاميين الإصلاحيين من خصومهم وأنهم صدقوا في خوض التجربة، فهذا تحصيل حاصل، ولكنه -وهو السؤال الأهم- هل بُني مشروع الشراكة الوطني والحلف الديمقراطي بناء صلبا داخل الحركة الإسلامية كمنظور لمشروعها السياسي ومع الفرقاء الوطنيين؟
وهذا لا يعني عدم الاستفادة من الدروس المؤلمة الماضية، ولا يعني البراءة أو التقليل من صلف أو خيانة بعض الجماعات العلمانية، ولكن الإيمان بهذا الطريق يدفع للتساؤل عن القوة التي أُنجزت في المشروع السياسي وليس العاطفة التي مورست عبرها التجربة، وبالتالي العودة إلى فهم أخطاء الحركة كما فهمت خيانات بعض الحلفاء أو تخليهم، وتَفهُم من لم تقنعه الحركة الإسلامية هنا أو هناك بمشروعها وسارعت في تعريض تجربتها للفشل أو للسقوط كما في ليبيا أو في كل دولة ربيعية.
كما أن هذا الرأي يطرح معه سياقات تحقيق معادلة القوة البديلة، فهل هي بالكفاح المسلح أم بإعادة رسم الخريطة والتواجد في المؤسسات العسكرية، وأهم من ذلك كله هل الحكم بالمطلق بفشل خوض التجربة السياسية قائما على رؤية دقيقة ودراسة بعيدة عن العاطفة، بكل حصيلة التجربة، أم هي أنات القهر وتدوين التاريخ عبرها وإسقاط آيات القرآن عليها كضرورة تفسير كما في كتاب أحداث صنعت التاريخ، وبالتالي استنساخ تجربة الماضي لإرضاء الضحايا والروح المظلومة وليس لإيجاد البديل.
إن بناء قدرات المشروع الوطني وقوته السياسية لا ينطلق من موقف وطلب شراكة الأحزاب أو الجماعات المخترقة أو العنيفة في خصومتها مع الإسلاميين، بل بنفس المشروع الذاتي للحركة الإسلامية وبانتقادات قراراتها التي أُهملت في هشاشة التجربة وضعف حصونها، كما أن الإصرار العاطفي على البقاء في مساحة أو مرحلة تترتب عليها تضحيات دون أي تقدم سياسي كان ضمن قرارات داخلية لا حوادث عرضية.
وعليه، فإن البنية التحتية لقرار المستقبل تحتاج إلى مساحة كبيرة لرؤية المشهد بعيدا عن الدمع والدم، ثم معرفة كيف يؤسس العهد السياسي الجديد للحركة الذي سينتج المشروع وكيف سيدير مسيرته في إنقاذ الدولة هنا أو هناك والعودة لمسار البناء الدستوري، بالتدرج الذي يحتاجه الظرف وشراسة الخصوم في الداخل والخارج.
حينها ستكون القدرة الذاتية في مستواها المقبول الذي سيحدد مساحة الشراكة، مع الحلفاء وبنائه الإنساني الذاتي وتحصينه من المنعطفات وتكاليفها، وسيُقدم تصورا مختلفا عن تصور الشراكة التبعية إلى الحلف الديمقراطي، الذي تؤمن فيه الحركة ذاتيا أن المشروع المتوافق عليه له حدود تعمل له مع كل الشركاء الوطنيين.
وتبقى آمالها الإسلامية وفقا لنجاحات هذا المشروع الذي يمثل رأس المال، ولا يوجد مكسب قبل أن تقبل بنظرية رأس مال مشترك مع الآخرين، وحينها كل تيار -يساريا كان أو يمينيا- له منظوره بعد أن تنشأ دولة الدستور والأمن الاجتماعي ويتحقق استقلال تنفيذي عن الاستبداد عبر حلف ديمقراطي قادر وقوي على منع الانقضاض والانقلاب على كيان الوطن الحر، الذي كان يُتنازع عليه وعلى صورة مستقبله بينما كان تحتهم قدرٌ يغلي.
الجزيرة
مهنا الحبيل
الإسلاميون والقمع.. الرد أم الحلف الديمقراطي 1309