المشهد اليمني غداة الربيع العربي ملبد بالغيوم، ويزداد قتامة وغموضا يوما بعد يوم، فالمبادرة الخليجية التي يتشدق بها الجميع ملغمة أساسا وتحمل بذور فنائها في طياتها، بدليل هذا التعثر وتداخل المشاريع بين نظامين في غمد واحد، فرغم منح الرئيس السابق حصانة، لم يكن يحلم بها أي ديكتاتور عربي، إلا انه لازال محور اللعبة السياسية، وبقاؤه في ممارسة نشاطه السياسي أصبح ذريعة لخصومة ولتعثر العلمية السياسية بالفعل، كما ان استحقاقات تلك المبادرة من وصول رئيس توافقي قذفت به الأقدار لسدة الحكم، وما نتج عن ذلك من حوار وطني طال أمده شارك فيه كل ألوان الطيف السياسي، ونتجت عنه مخرجات اتفق عليها الجمـــيع إلا أن الواقع يسير في اتجاه معاكس، فلا دور للنخب المثقفة، او الواجهات الاجتماعية والدينية وكذا الاقتصاديين او حتى عقلاء السياسة، وكذا من قادوا ثورة التغيير المفترض، فالقوة هي سيدة الموقف وفرض آراء وأفــــكار ورؤى من فوهة البندقية هي منطق ساسة اليمن اليوم، وطبول الحرب تدق مجددا، وبعد ما يقارب الأربع سنوات من الربيــــع العربي في نسخته اليمنية، فان صنعاء مدينة مفتوحة على كل الاحتمالات، ولن تستطيع الدولة الهشة المتآكلة ان تفرض هيبتــــها، بعد ان مرغتها عنجهية الإسلام السياسي المستــفيد من هذه الفوضى الخلاقة، واستغلاله نقمة الشارع من سوء الحال الذي آلت اليه ظروف اليمنيين، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
أمريكا منحت العراق لإيران على طبق من ذهب، ما لم تستطيع إيران عمله خلال ثماني سنوات من الحرب، التي انتهت بمقولة الخميني )كأنه قد تجرع السم). وفي اليمن منح السعوديون ورئيس النظام السابق، الحوثيين فرصة لم يستطيعوا الحصول عليها في ست حروب هزلية، كان هدفها فقط استعطاف الخارج وإرضاء الداخل، فقد كانت مجرد حروب تحريك وليست تحريرا.
من مفارقات المشهد اليمني ان حلفاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، والعكس صحيح، فقد شارك بعض من اتباع صالح في الاحتجاجات، ومعلوم أن الآلة الإعلامية الضخمة للرئيس السابق تنافس، بل تضاهي إعلام الحكومة نفسها، التي يشارك في معظمــــها ويعارضها في الوقت نفسه! والأمر نفسه بالنسبة لإعلام الإسلام السياسي في ما يعرف بأنصار الله، اذ ان هاتين الجهتين هما المسيطرتان على الإعلام اليمني تقريبا، ويشاع أن هناك دعما خفيا ولوجستيا ًمن قبل (الدولة العمـــيقة) للنـــظام الســــابق، مع أصحاب التيار الجديد الصاعد كالصاروخ، واللافت أنهم يلعنون صالح ليلا ونهارا، رغم مســـاعدته السخـــية وتعاطــــفه، ناسيا بأن قتل القائد حسين الحـــوثي وهي جريمة لا تغتفر بالطبع حسب مفردات الواقع السياسي اليوم، ولا شك أن السعودية هي الأخرى ستتجرع السم آخر المطاف، في ما لو سارت الأمور كما هي عليه اليوم، عندما سيصحون ذات يوم وخصومهم على أطراف مملكتهم. اما الرئيس السابق فقد بدأ العد التنازلي لا محالة، ويمكرون والله خير الماكرين.
قوة التيار الحوثي ليست في ما يحمله من قيم، فكل الأحزاب والتيارات السياسية والدينية في اليمن منذ عقود تدعي العدالة والإنصاف والدولة المدنية التي تغنوا بها حينا من الدهر، الذي سهل لهم المهمة هو عدم ثقة المواطن في حكومة الفساد ونظام الفساد القديم الجديد، الذي جثم عليهم نحو نصف قرن.
الذي يستفيد من هذه الفوضى الخلاقة اليوم هي الأحزاب الدينية وعلى رأسها الإسلام السياسي، الذي لم يعد مناسبا لليمن، لان الشعب اليمني باختصار ليس على مذهب واحد، بل هم شيع وقبائل.
تصاعد الاحتجاجات التي يقودها تيار ما عُرف بأنصار الله ضد حكومة ائتلافية شارك فيها كل أطياف العملية السياسية المؤقتة، بحجة الجرعة الاقتصادية، وهو حق اريد به باطل، فكيف يعارضون حكومة هم شركاء فيها، وهي فترة انتقالية اتُفق عليها بموجب نتائج الحوار الوطني. اليمنيون اختلط عليهم عدد من المفاهيم، فالحكم العائلي لنظام صالح هو من يفترض ان تقوم ثورة عليه، فلا مستقبل لحركة تفرض فكرتها بقوة السلاح، وهو الأمر نفسه لا مستقبل لنظام يستقوي بالخارج، فلا هذا سيفلح، ولا ذاك سيكسب الجماهير، الجرعة التي تمت هي بموافقة حكومة توافقية فرضتها الظروف الاقتصادية ولم يكن يستفيد من الدعم الحكومي سوى اللصوص ومراكز القوى، كما ان الجرعة تمت بعد دراسة اقتصادية وتشاور كل القوى، ناهيك عن دعم وإيعاز خارجي من البنك الدولي والمانحين، ومن الصعوبة التراجع عنها. وفساد السلطة تأسس منذ ثلث قرن مضى وهي عملية تراكمية وليست وليدة اليوم، معاً لمواجهة الفساد والاستبداد، ولا للإسلام السياسي والغرور والنصر المرحلي المؤقت باسم الشعب، فهتلر وموسليني كانت صولاتهما وجولاتهما باسم الشعب، وهتلر وصل السلطة بطريقة ديمقراطية. ان تنامي الاحتجاجات على هذا النحو الطائفي، سيعجل من فكرة تقسيم اليمن الذي باتت فعلا قاب قوسين او ادني، لقد تجاوزت إفرازات الربيع العربي في نسخته اليمنية أحلام اليمنيين في دولة نظام وقانون، في دولة تجمع ولا تفرق، حتى التقسيم الفيدرالي ملغم طائفيا واقتصاديا، والدستور المقترح بناء على مخرجات ذلك الحوار، قد يكون تماما كدستور (بريمر) في العراق، حيث يتجرع العراقيون تناقضات دستورهم.
لم يكف هؤلاء اللصوص أنهم سرقوا ثورتنا، بل قطعوا امل ثورة مستقبلية، لان الجماهير لم تر نتيجة على الأرض، بل فسادا متواصلا، ومن هنا كان نجاح من يسمون بأنصار الله، غداة الربيع العربي في نسخته اليمنية، والشعب اليمني من وهم إلى آخر وفترة انتقالية تلد أخرى، وحوار يفرز حوارات، كنا خلال الحوار الذي طال أمده على أمل ان يجتمع اليمنيون على كلمة سواء، لكن من اندلعت الثورة ضدهم هم نفسهم من يرسمون ملامح مستقبل اليمن! وكان اليمنيون على ينتظرون دستورا يعكس معاناة الشعب ويلملم جروحه ولكن فوجئوا بخيارات الفيدرالية التي تقسم ولا تفرق، فمشكلة اليمن هي سوء العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليست بين الشعب والأرض، فما ذنب الوطن يقسم بسكاكين الساسة، وكان اليمنيون على امل انتهاء الفترة الانتقالية وصولا لدولة مدنية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، ولكنهم فوجئوا بأن داست أجزاء من أراضيهم، سنابك خيول الإسلام السياسي المتطرف، الذي غدا يفرض شروطه متمترساً في أطراف العاصمة المنهكة، فارضاً على الدولة الفتية المؤقتة التي ارتضى بها الجميع العين الحمراء، فهل يعقل اننا نعيش القرن الواحد والعشرين عندما يفرض طرفا رؤيته من فوهة البندقية؟
الذهول والتبلد السياسي سيد الموقف، أيعقل ان اليسار اليمني العريق منذ الخمسينيات والحزب الاشتراكي تحديدا، وكذا القوميين من أحزاب البعث والناصري، يصبحون مجرد ديكورات ومحللين سياسيين، ويخرج أصحاب الإسلام السياسي ليضعوا أنفسهم أنصارا للفقراء والمحرومين لمقارعة الاستبداد، اخيرا يتساءل الكثيرون اليوم… أين اليسار اليمني من كل ما يجري؟
٭ القدس العربي
عبدالوهاب العمراني
صنعاء مدينة مفتوحة على كل الاحتمالات 1569