نام صاحبي ولما أفاق يوماً وجدته وقد استبدل وجهه وصوته؛ أخذ يحدثني عن الفردوس وخمرته ومذاقها ونشوتها، وعن حورياته الغانيات اللائي كن قد سلبن لبابه. ليته كان يدري أن المرء جوهرة عقله وإيمانه ضميره؛ فمتى ذهب لبابه أو مات ضميره, صار أشبه ببهيمة ناطقة لا أكثر.
كان هذا آخر ما سمعته من احمد الذي عاش بيننا زمناً قبل أن يتزمل بنسيج نعيم الخلود ، ينشد موال الرعب والموت، يلتحف الثرى المخضل برائحة البارود. نعم قبل أن يصير مسخاً شيطانياً في دثار آدمي.
اذكر انه وقبيل وداعه لنا أشار بيده للأفق البعيد قائلاً: سأذهب إلى هناك.. حيث الشمس لا تغيب والشهب والنجوم لا تفل.. إلى فضاء أفسح من سماكم ، وإلى حلم وأمل ووطن أعظم وأجمل من وطنكم، إلى سدرة منتهى لا يطأها إلّا نبي أو رسول.. إلى مرتقى لا يبلغه غير صفوة البشر وخيارهم الأبرار الميامين.
التحق احمد في زمرة جند الله المحاربين لشياطين الإنس الكافرة المارقة – هكذا ظن نفسه – أسبل شعر رأسه ولحيته وحتى ردائه ، تأزر بحزام ناسف ، ركب دراجة صينية ، امتشق بندقيته وزاد فوقها قنابل روسية مختلفة الصنف، حمل قطعة قماش سوداء كئيبة إلَّا من بياض هامشي لكلمات الشهادتين.
بطن خاوية، وذهن خامل جاهل، ونفس جدبة شبقة لعاطفة وحنان، فهذه الثلاثة الأشياء بلا شك هي كل ما أخذه احمد إلى جماعة الموت. فقر وجهل وحرمان وكلها مادة أساسية لصناعة القتلة, لغسل أدمغة الضحايا وجعلهم مجرد كائنات فاقدة الإحساس والرابط بانتمائها إلى الأحياء.
كان احمد لا يحتمل رؤية ذبح دجاجة أو شاه, لكنه وبفترة وجيزة لاستقطابه بات أشبه بوحش فتاك لا يتوقف عن اصطياد فرائسه
النفس الآدمية في هذه الحالة ثمنها يساوي رصاصة في الرأس أو مدية في الصدر. بمضي الأيام صار القتل ولعه المحبب، الدم النازف، أشلاء الضحايا المتناثرة، دموع الثكالى، رائحة الديناميت، فكل هذه المشاهد المروعة بالنسبة لأحمد باتت مسألة عادية ومألوفة.
أخر فظائعه كانت حين داهمت خليته المكلفة بنسف مستشفى يرقد فيه أبيه إثر نوبة مباغتة سببها المباشر انه لم يحتمل فظائع نجله في عيون وألسنة الآخرين. قُتل أبيه وبجواره قُتلت أُمه وشقيقه الأكبر اللذان صادف وجودهما مع الهجوم الحاصد لعشرات المنايا المتعبة الموجعة.
احمد وعناصر خليته الإرهابية لم يكتفوا بمهاجمة المستشفى بحمولة سيارة من مادة الديناميت المتفجر في فناء المكان؛ إذ زادوا في بربريتهم ولحد مهلك للمريض والزائر والطبيب.
عقب العملية عُثر على جثة احمد وبمكان ليس ببعيد عن غرفة أبيه الذي قضي نحبه فيها إلى جانب أمه وشقيقه. مأساة ينصدع لها الصخر، فكم هو محزن ومؤلم ما حدث لأحمد وعائلته؟ مأساة بلا ريب ستظل محفورة في ذاكرة الناس الذين عاشوا فصولها.
ليس المخيف الموت ولا أن يهلك الإنسان في حادثة ما، إنما الرهيب هو الموت المخزي المخجل الذي يلحقه الاحتقار والازدراء.
حاولت أن أتمالك نفسي ، ولكن المصيبة اعظم من أن تحبس دموعك أو لعابك ، فضحايا المذبحة لابد وان يقسروك على النحيب، كما ولن تمضي لسبيلك دون أن تبصق ريقك على برابرة العصر.
غصة وحرقة ومع ذلك تجشمت وتجاسرت فقلت مخاطباً جثة احمد المتفحمة: ما من جنة افضل من جنان أبويك, وما من حورية ترجى لضال وباغ, وما من نعيم ورغد ومنزلة في الفردوس للقتلة المتوحشين السفاحين الفاحشين, فما من رسول وما من دين وشريعة تجيز قتل النفس المحرمة واستحلال أموال وأعراض الآخرين أياً كان دينهم وجنسهم!.
احمد.. تباً لك ولجماعتك، لقد قتلت والديك وشقيقك، وقبلهم أهرقت دم الأبرياء والعزل والأسرى، وأخفت الآمنين والمسالمين، وسرقت مال المودعين والعاملين، وطعنت دين الإسلام شر طعنة، وذبحت رقاب المسلمين وغير المسلمين دونما ذنب أو جريرة سوى رغبتك الدفينة في الانتقام من الحياة.
نعم ما من غانية وجنة يمكنك العثور عليها في الجحيم!.. فنم الآن في عذابك؛ فما خلقك الله للبغي والعدوان والقتل والسبي والذبح والترهيب والبغض والانتحار وسواها من الأفعال الشريرة المغالية في بشاعتها وفظاعتها وإساءتها.
محمد علي محسن
ما من حورية في الجحيم؟! 1628