ماذا سيذكر العراقيون من رئيس وزرائهم المنصرف نوري المالكي سوى تشبثه بالسلطة، وسياساته الطائفية، وتقارير داخلية وخارجية عن معدلات الفساد العالية، وتردي حقوق الإنسان، وتفجر الأوضاع الأمنية، وتقسيم العراق بشكل فعلي، ووضع المالكي أوراقه كلها في سلة إيران، التي تخلت عنه أخيراً بعد أن أصبح «كرتاً» محروقاً داخلياً وخارجياً؟
جردة حساب بسيطة لما قام به المالكي خلال سنوات حكمه العجاف، التي بدأت عام 2006، تجعل المرء يذهل لقدرة بعض القادة على مراكمة الكوارث في حق شعوبهم من دون الاعتراف بها.
ولكن في مثل وضع المالكي وقدراته الإدارية المحدودة، لم يكن بالإمكان الخروج إلا بهذه الكارثة التي مر بها العراق. والحقيقة أن المالكي لم يكن وحده المسؤول عما آلت إليه الأمور في هذا البلد العربي، غير أنه كان المسؤول الأول بامتياز.
تميز عهد المالكي بسياساته الطائفية، وحقده الشخصي، وتسلطه واستبداده، بالإضافة إلى ضعف في القدرات الإدارية على مختلف الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية.
أمنياً لن يفخر المالكي بأنه حقق للعراقيين الأمن، حتى داخل المنطقة الخضراء، حيث غدت السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة من السمات اليومية البارزة لعهده، ناهيك عن خروج محافظات بأكملها عن سلطة الدولة المركزية، الأمر الذي انتهى إلى هروب جيش المالكي المبني على أسس مليشياوية طائفية من وجه مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومسلحي العشائر في الموصل وغيرها من مدن شمال ووسط العراق. وعلى الصعيد الاقتصادي، يكفي أن الجفاف السياسي الذي واكب أداء المالكي رافقه جفاف مائي بفعل انشغال المالكي عن الحالة الاقتصادية بمحاربة خصومه، على الرغم من جريان الرافدين في «بلاد السواد»، الأمر الذي أدى إلى انهيار الزراعة بشكل مريع. والمالكي لن يفخر يوماً بأنه كافح الفساد، على الرغم من تشكيل هيئة لمكافحة الفساد، حوت ـ للمفارقة – أسماء فاسدين كبار، وتقارير منظمة الشفافية العالمية تورد العراق على رأس قائمة دول الفساد في العالم، الأمر الذي جعل معدلات الفقر في البلاد لا تتناسب مع مواردها الطبيعية الهائلة، التي بددها الفساد والمحسوبية وسوء إدارة الموارد والصراعات الداخلية التي بدد المالكي عليها ثروات طائلة، ناهيك عن أن المالكي وضع جزءاً كبيراً من ميزانية البلد تحت تصرف الإيرانيين، الذين دعموا بها جهود بشار الأسد للقضاء على الثورة المسلحة في سوريا.
وفي ما يخص وضع حقوق الإنسان، فإن التقارير الدولية حولها توازي في سوئها تلك التقارير عن معدلات الفساد في البلاد. فعراق المالكي كرس سلطة الفرد، وسيس القضاء، وضيق على الحريات، واستهدف مكونات عراقية بعينها، وطارد رموزاً سياسية على أسس طائفية. وسجون المالكي غصت بالمعتقلين الذين قضوا سنوات طويلة من دون محاكمات، وكان للمرأة العراقية نصيبها الوافر من الاستهداف بالسجن، الأمر الذي عجل بالحنق الشعبي في محافظات غرب ووسط العراق. واستهدف المالكي خصومه السياسيين من السنة تحت مسمى الحرب على الإرهاب، وكان أكبر المستهدفين من تلك العملية نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، ولم يكن آخرهم النائب البرلماني السني أحمد العلواني، الذي اعتقل في عملية قتل فيها شقيقه، وهو الأمر الذي فجر ثورة شعبية في الأنبار كانت بمثابة آخر المسامير في النعش السياسي لرئيس وزراء العراق نوري المالكي. ولا بد أن المالكي أدرك فداحة فترة حكمه في مجال حقوق الإنسان، وعرف هول الجريمة التي ارتكبها في حق شعبه، ولذا وضع عدداً من الشروط لقاء تخليه عن المطالبة بمنصب رئاسة الوزراء للمرة الثالثة، ومن تلك الشروط حصانة له ولكل العاملين معه من الملاحقات القضائية، وهو الأمر الذي إن منح له فإنه لن ينفعه، نظراً لكثرة الذين ينتظرون لحظة الحساب.
وعلى الصعيد السياسي كان الفشل حليف المالكي في سياسته الخارجية والداخلية، فعلى صعيد السياسة الخارجية ـ على سبيل المثال – لم يستطع المالكي إعادة العراق إلى محيطه العربي، بل وسع الهوة بين بغداد وأشقائها، وظلت سياساته تنحو منحى عدائياً تجاه جواره العربي، على عكس دفء العلاقة مع الجار الشرقي اللدود للعراق، ولعل المالكي يدرك اليوم بعدما باعته طهران أن إيران ما كانت ترى فيه غير مطية لتنفيذ سياساتها في العراق وضمان مصالحها في هذا البلد الذي لم تنس له طهران وقوفه ضد تمددها خارج حدودها ثماني سنوات، إلى أن تهيأت الفرصة لها للانتقام بشكل بشع على أيادي بعض العراقيين للأسف الشديد.
ولعل الفشل الكارثي لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قد تمثل في سياساته الداخلية التي عمقت الفرقة بين العراقيين، وأصبح العراق بفضل هذه السياسات – التي لم ترتق فوق غريزة الثأر- مقسماً بالفعل إلى ثلاث مناطق شبه مستقلة في الجنوب والغرب والشمال.
وبعد أن أحس المالكي أن أيامه باتت معدودة على عرش بغداد، حاول العزف على الوتر الوطني، ورفض التدخل الخارجي، وحاول الاستعانة بالقضاء في معركته الخاسرة ضد رئيس الجمهورية الجديد فؤاد معصوم، الذي كلف حيدر العبادي بتشكيل الحكومة الجديدة، غير أن المالكي بقدراته المحدودة للأسف لم يدرك بعد أن المعركة قد حسمت داخلياً وخارجياً لغير صالحه، وأن القضـــاء الذي سيسه، وجعله سيفاً مسلطاً ضد خصـــومه السياسيين، لم يعد بإمكانه المـجــــاراة في الملعب الذي وضع المالكي قواعد اللعب فيه بشكل ينم عن أنانية وفردية مفرطة.
ولن يغير تهديد المالكي بتحويل العراق إلى ساحة حرب، ولا تحريكه لمليشياته شيئاً في الواقع، لقد انتهى الأمر، وأصبح نوري المالكي بتجربته الكارثية في ذمة التاريخ. وسيذكر العراقيون – أن رجلاً سيئاً بامتياز تسلل إلى قصر الحكم في عاصمة الرشيد- كلفهم الكثير، والكثير جداً، رجلاً كان اسمه نوري المالكي.
من صفحته على الفيس بوك
د.محمد جميح
كان اسمه نوري المالكي 1738