لا أحد في زمننا هذا لديه الوقت كيما يسألك: من أي قارة أنت؟, من أي قبيلة؟, من أي جماعة؟, من أي ملة ومذهب؟, من أي قوم وعترة وربع؟.. نحن- فقط- المنغمسون في لُجة الأصل والفصل والحسب والنسب.
هل شاهدتم مباريات كأس العالم في بلاد السامبا؟ شخصيا لم استطع متابعة المنافسة العولمية بسبب تغول الرأسمالية المحتكرة اليوم ما كان مجاناً "وببلاش" .
أما السبب الآخر فمرجعه مطاوعة جهله أفتوا بحرمة مشاهدة كرة القدم في ليالي رمضان فما كان من متبني الشاشة البيضاء الكبيرة إلا الامتثال لهذا المنع الآتي من جماعة ربانية مكلفة بتطهير الأرض من كل المعاصي والذنوب باستثناء القتل والحرابة والسرقة والترهيب وحتى الكذب على الله ، فيما فئة ثانية اطلقت رصاصها على شاشة تم تنصيبها في احد الأحياء السكنية
ومع هذه الوضعية المحبطة قدر لي متابعة أخبار المونديال لحظة بلحظة ومن خلال قناة" بي ان سبورت" التي وان حرمتنا المشاهدة المباشرة للمباريات لكنها بالمقابل عوضتنا بأخبارها وتقاريرها ومتابعاتها الدقيقة لكل مجريات الأحداث .
على العموم يمكن القول إن ما لفت انتباهي في مونديال البرازيل هو ثلاثة أشياء تهمنا كعرب ومسلمين . أول هذه الأشياء بالطبع رأيتها في وجوه وأسماء لاعبي المنتخبات المشاركة في هكذا محفل دولي ، فما من منتخب فرنسي أو هولندي أو بلجيكي أو ألماني أو إنكليزي أو سويسري أو إيطالي أو أسباني أو يوناني إلَّا وضم في صفوفه لاعبين عرب ومسلمين وكذا من ذوي البشرة الأفريقية السمراء أو الأسيوية الصفراء .
نعم لطالما كانت فرنسا سباقة في مضمار تشكيلة منتخبها خلال المونديالات الفارطة لكنها ميزة لم تدم طويلاً؛ إذ أن مونديال 2014م كان كاسرا للعصبية المتزمتة لسحنة الإنسان أو لغته أو عقيدته .
ادهشني ذاك التنوع الحاصل في تشكيلة منتخبات أوروبية ، إننا إزاء ظاهرة إنسانية عولمية تجاوزت كل الحواجز الضيقة كما واحسبها بداية لحقبة تاريخية مؤصلة لهوية جديدة غير تلكم الهوية المختزلة ببطاقة وجنسية وعقيدة ولون ولغة .
كم رجوت الله أن يفتح عقولنا كي ندرك فنستوعب ما يحدث حولنا وأمامنا من تغيرات وصلت لصميم المجتمعات الأوروبية والأمريكية, حين سُئل مدرب منتخب فرنسا " ديدييه دوشان " عما إذا كان لاعبوه المسلمون سيفطرون في مباراة فرنسا ونيجيريا المهمة والمصيرية والمخاضة في ظهيرة يوم قائض درجته 43% فيما الرطوبة تعدت الـ80؟ أجاب : لا.. لا.. المسألة هنا حساسة وتتعلق بعقيدة دينية لا ينبغي المساس بها وإنما تستوجب منا الاحترام والتقدير.
الأمر الآخر الذي لفت نظري هو محاولة الساحر المكسيكي وأتباعه الذين ظلوا يؤدون طقوس " شعوذة " فانتصارات الفريق المكسيكي المتلاحقة لم تكن سوى نتيجة لمجهود لاعبيه في المستطيل الأخضر؛ ومع ما أظهره الهنود الحمر من مهارات فردية ومن لياقة بدنية ومن انضباطية صارمة بخطط مدربهم ومن لعب رجولي مستميت للتأهل إلى ثمن النهائي إلا أن فئة من البشر علقت أملها وأمنت بقدرة الساحر على هزيمة المنتخبات المنافسة لمنتخب المكسيك .
الحالة الثالثة تمثلت بسفير العرب الأوحد إلى المونديال الذي صادف توقيته هذه المرة مع شهر رمضان.. نعم شرفنا حضور الجزائر في هذا المونديال، وبالفعل كانوا محاربي صحراء وفي ملعب اخضر سلاحه اللياقة والعزيمة والمهارة واللعب برجولة ، وجميعها وجدتها في رُسل العرب وطوال المباريات الأربعة التي خاضوها بهمة واقتدار .
ومع احترامنا وتقديرنا للأخضر أجدني هنا أسأل وبحسرة وألم : لماذا هذا الغلو والتنطع وفي مسألة فقهية سبق وافتي بجواز الإفطار وفي هكذا تمثيل للأوطان ولعل أخرها فتوى شيخ الأزهر العام الفائت على ما أظن إذ كان وقتها المنتخب المصري في مواجهة دولية. الله بجلاله وعظمته يسَّر مسألة الصوم فلم يفرضها على المسافر وعلى المريض . بعض فقهاء المسلمين لو أن بيده مفتاح الرحمة والتوبة والمغفرة لربما أغلقه بوجه الجميع مثلما يغلق بوابة الجامع عقب الصلاة .
إحدى الصحف الأوروبية عنونت ترويستها بالتالي: "الجزائر تتأهل بفريق فرنسي " ومعها كل الحق فأوطاننا من المحيط وإلى الخليج ليس بمقدورها صناعة لاعب محترف مثل زين الدين زيدان أو كريم بنزيمه الذي يعد الآن ورقة ديوك فرنسا في مونديال البرازيل .لم اقل إن سفيرنا الأوحد لا يتحدث معظم لا عبيه العربية وإنما الفرنسية وبطلاقة إلَّا من رحم ربي .
نعم الرياضة باتت صنعة وحرفة ولها مدارسها وأكاديميتها المعروفة في عالم اليوم ، والمنتخب العربي الوحيد ليس بخافٍ على احد بكونه نتاجاً لرياضة فرنسا ولمدارسها فلو أن لا عبو الأخضر ولدوا في وطنهم الأم لما رأيناهم بهذا المستوى الرفيع لياقة وعقلية ومهارة واحترافية ووو إلخ .
الركوع في ميدان الكرة صار ظاهرة مسيئة وينبغي وقفها خدمة للإسلام والمسلمين، البعض يقول لك: وماذا في الخضوع لله؟ إنهم يشكرون ربهم. ألم تشاهد كيف أن اللاعب المسيحي يستفتح لعبه ومشاركته بصلاة الصليب المعروفة؟ ليكن لهاجنا دعاء وتكبير وحتى برفع الكفين حمداً وشكراً ودعاء مثلما هو فعل اللاعبين المسلمين في أوروبا وأمريكا. أما أن يكون ركوعاً وعقب كل هدف, فذاك إساءة بالغة للعبادة ولرب العباد الذي نظهره هنا وكأنه حاضر فقط وقت تسجيل فرقنا لهدف في مرمى الخصوم فيما نغفله حين الهزيمة.
محمد علي محسن
ثلاثة مشاهد من المونديال!! 1483