قد أكون غير مبالغ بتصنيف العنصرية كداء يصيب صنفاً من البشرية, لأني في المقابل لن أكون منصفاً إذا اكتفيت بتناول العنصرية على اعتبارها قضية إنسانية. فداء العنصرية داءٌ وراثي بغيض شأنه كشأن بقية الأمراض الوراثية البغيضة التي لا علاج لها سوى بعض الأدوية والعقاقير التي تُسَكِّنُ من آلام تلك الأمراض عند المصابين بها لكنها لا تزيلها إلى الأبد, وبالمثل فإن التعليم والتثقيف والتوعية قد يخفف بعض أعراض وملامح العنصرية عند المصابين بها لكن ذلك لا يؤدي إلى إخفاء تلك الملامح إلى الأبد.
كما أن الأمراض الوراثية تنتقل جيناتها من جيل لآخر وقد يكون البعض حاملاً لجينات المرض ولكنه غير مصاب به إلا أن المرض قد يظهر في أبناءه وربما يظهر عليه في مراحل متقدمة من العمر عندما يجد الظروف المناسبة, وبالمثل قد تختفي العنصرية من أفراد أي سلالة عنصرية لفترة معينة بسبب التوعية والتثقيف لكن معالمها قد تظهر لاحقاً في ظرف معين أو في الأجيال اللاحقة. ولهذا سمعنا وقرأنا ونرى اليوم الذين أخفوا عنصريتهم قد أظهروها للعلن رغم مستواهم العلمي والثقافي, فكثير من هؤلاء قد انجروا تحت قيادة شاب جاهل رغم أنهم يحملون مؤهلات عالية ويشغلون مناصب رفيعة , إلا أنهم تنازلوا عن مؤهلاتهم وفضلوا أن يكونوا تحت قيادة شاب جاهل أصغر منهم عمرا و أقل منهم خبرة وأدنى منهم ثقافة عندما وجدوه يغامر بالبلد ويجازف بتهور لتحقيق مشروعهم العنصري السلالي المفقود, ولهذا نرى اليوم أولئك العنصريين في مختلف البلاد قد جمعهم هدف عنصري سلالي واحد في إثبات واضح للعيان لتوارثهم العنصرية, ولا أرى لذلك سابقة من قبل في التأريخ إلا عنصرية بني إسرائيل التي كانت الدافع الأساسي لتجمعهم من مختلف بقاع الأرض إلى أرض فلسطين عقب وعد بلفور والنكبة العربية رغم عدم تجانسهم في مختلف جوانب الحياة.
لكني أفضل هنا أن أتناول العنصرية كقضية بدلا من تصنيفها كداء وراثي حتى أجد لنفسي وللقارئ نافذة أمل للتخلي عنها والتوعية ضدها بسبب شرورها وأثارها الخبيثة.
فمن يتتبع قضية العنصرية في بلادنا يجد أن قضية العنصرية ليست قضية معاملات أو قضية سياسات أو قضية علاقات فحسب، بل إنها قضية اجتماعية تتصل بعادات مجتمعنا اليمني وبقيمه وثقافته وإرثه الحضاري وبتأريخه الذي رسمه النظام الإمامي البائد الذي أسهم وعلى مدى عقود الاستبداد البغيضة في تأجيج مشاعر العداء والكراهية بين طبقات وشرائح المجتمع بطابعها التمييزي المبني على فرضية أن هذا سيد وهذا من حاشد وهذا من بكيل وهذا قبيلي وهذا "عطعوط" وهذا حبشي وهذا مولد وهذا خادم، واستمر الأمر دون برنامج توعوي بالتفرقة العنصرية في عهد النظام الجمهوري بعد الثورة السبتمبرية, مما أعطى للممارسات العنصرية الدافع الانتقامي الذي وحد أبناء كل شريحة أو فئة من فئات المجتمع اليمني لتحتفظ علاقاتها الاجتماعية بعيدا عن الفئات الأخرى وذلك ما أدى إلى ترسيخ سلوكيات القبيلة وحارب سلوكيات المدنية.
والأفظع من ذلك أن توحدت كل فئات المجتمع وشرائحه بكافة مذاهبه وأعرافه ضد طبقة واحدة وهي طبقة المهمشين (الأخدام) فحرمت تلك الطبقة من كل مقومات الحياة مثل حق امتلاك الأرض والمسكن والوظيفة العامة وممارسة التجارة والأعمال الحرة, بل إن الأفظع من ذلك كله أن تكتشف منظمات حقوق الإنسان مؤخرا حوالي أكثر من 3000 حالة عبودية في اليمن.
والجدير بالذكر هنا أن حل قضية العنصرية لا ينحصر في تطبيق القانون أو التشريعات الوطنية سواء السارية منها أو المقرة كحلول ضمن قضايا الوطن التي تم مناقشتها في مؤتمر الحوار الوطني، وإنما الحل يتعلق بالتوعية و بالوسائل المثلى التي تحد من قدرة وبراعة المجتمع اليمني السياسي والجماهيري والمدني والحكومي في الاحتيال على القوانين عبر اللجوء للأعراف الاجتماعية المتوارثة لتحل محل القانون خاصة في المسائل الأسرية والاجتماعية, وهذا هو الأمر الذي جعل القوانين تتصدر دائما قائمة ضحايا الاغتيال الممنهج الذي يطالها على الصعيدين الرسمي والمجتمعي على حد سواء.
وختاما: إن ما ندركه تماما أن شعارات المساواة والحقوق والحريات كانت هي إحدى شعارات الثورة الشبابية السلمية، ولكننا نستنكر اليوم تلك الشعارات الدينية التي تنشر الكره والعدائية وتولد الضغائن بين الشرائح الاجتماعية. حيث تختفى الأهداف العنصرية تحت شعارات وهمية لتستبيح دماء اليمنيين الزكية.
ونخشى أن تظل نتائج الحوار مجرد شعارات تدعو للعدل والمساواة والعدالة والمواطنة والحرية، فنكتفي بالتشدق بها قولاً بلا عمل كما تشدق بها النظام السابق على مدى عدة عقود في الوقت الذي أفرز ذلك النظام أزمات كارثية وتقادمية تعتبر هي الأسوأ على صعيد العلاقات الإنسانية بين مختلف شرائح وفصائل المجتمعات اليمنية.
محمد صالح الحشئي
العنصرية داءٌ وقضية 1306