عاد صديقي من أديس بابا منبهراً بما أحرزته العاصمة الأثيوبية من نهضة عمرانية وتجارية واستثمارية وخلال خمسة عشر سنة على مغادرته لها.
خلته في أول الأمر مازحاً لا جاداً ، فكل ما أعرفه عن هذا البلد هو أن شعبه أطيب شعوب المعمورة وأكثرها قرابة وحميمية ومودة إلى اليمنيين فضلاً عن كونه يشاطرنا كثيراً من السمات والخصائص الأنثروبولوجية.
فيكفي التأكيد هنا أننا إخوة في المولعة على شجرة القات ،وكلانا يدعي أحقيته في الملكة بلقيس وعرشها ، فتبعا لهذا الاعتقاد فان ملكة سبأ المعروفة في أثيوبيا باسم الملكة " ماكيدا " تزوجت بالنبي سليمان بن داؤود سنة 975قبل الميلاد وهذا الزواج نتج عنه ولادة الملكة لأول ملوك العائلة السليمانية اقدم الأسر الحاكمة وأطولها حكماً لأثيوبيا .
أثيوبيا المشتق اسمها من لفظتين إغريقيتين aithio – ops ومعناهما الوجه المحروق أو البُني اللون .وأثيوبيا المعروفة في الأدبيات والمصنفات العربية بالحبشة المشتق - أيضاً - من حبشت الكلمة الواردة في التوراة والتي تعني الأجناس المختلطة والمختلفة والناتجة عن أنصار السامية الوافدة من جنوب الجزيرة العربية مع الحاميين والكوشيين من سكان البلاد الأصليين .
كما ويعود أصل مفردة" حبشتط إلى قبيلة حبشت التي هاجرت من اليمن واستقرت في مرتفعات القرن الأفريقي عقب انهيار سد مأرب, زد لهذه القواسم المشتركة؛ فملوكها توارثوا حكم هذا البلد قروناً من الزمن بدعوى سلالتهم الوارثة لمُلك أبيهم سليمان وأُمهم بلقيس ، كما وحكامنا غنموا بلادنا واستبدوا بشعبها أيضاً قروناً ومازالوا يثخنونهما دماً ووجعاً وتمزيقاً؛ تارة باسم حكم الشعب وكثيرا إنابة عن الله الحاكم المطلق .
في منتدى شاركت فيه مؤخراً وكان موضوع النقاش الفيدرالية وأنواعها وسبل توزيع السلطة والثروة فيها؛ ادهشني احد المتحدثين وهو يشير إلى هذا البلد الجار الفقير الذي لم بدأ انتقاله من الدولة المركزية البسيطة إلى الدولة الفدرالية المركبة بانتخاب جمعية تأسيسية يونيو 1994م وهذه الجمعية المنتخبة المكونة من 547عضواً منتخباً اعتمدت دستور الدولة الاتحادية في ديسمبر من ذات العام .
وفي مايو ويونيو من السنة التالية 1995م أُجريت أول انتخابات لأول برلمان اتحادي ولأول برلمان إقليمي بداخل المناطق التسع المشكلة للدولة الجديدة إلى جانب مدينتا أديس أبابا وديري داوا ذاتا الوضع الخاص .
ومع هذه المدة الزمنية القصيرة حققت الدولة الاتحادية نهضة معمارية واقتصادية وتنموية فاق التوقع؛ إذ أن معدل النمو السنوي في تصاعد مستمر ، طموح لا يتوقف عند استثمارها لمياه النيل ولإنتاج أكبر طاقة كهربائية قدرت بعشرة آلاف ميجا وات أو عند نجاحها المحرز على صعيد النظام الفيدرالي وما فتحه من أفاق جديدة للتنمية والاستثمار والتنافس والتشارك والابتكار لطرق ووسائل وقنوات جديدة تؤدي في مجملها إلى نهضة شاملة في كامل البلد ومن ثم مع دول الجوار والإقليم والعالم .
فوفقاً لإحصائيات الأعوام الماضية تعد أثيوبيا من أسرع البلدان غير منتجة للنفط نمواً على مستوى القارة السمراء التي تعد أثيوبيا ثاني أكبر دولة من ناحية الكثافة السكانية البالغة وفق تقديرات 2011م بـ82مليون نسمة, كما وتعد المنتج الأكبر لـ10% من الماشية في العالم .
لا أريد الإسهاب كثيرا في تجربة هذا البلد المعتمد في الأغلب على الزراعة ومنتجاتها وصناعاتها المدرة للدولة ما نسبته 43% من الناتج المحلي و80% من إجمالي الصادرات المشغلة في مجملها لـ85% من القوى العاملة .
نعم هنالك مشكلات اجتماعية واقتصادية يستلزمها عقود من الزمن كي تتعافى منها أثيوبيا الدولة الفقيرة الناهضة الآن وفي واقع ديموغرافي وطني وإقليمي معقد وشائك ورافل بعوامل جمة محبطة وائدة أكثر من أن كونها عوامل مشجعة محفزة داعمة للنهضة المجتمعية المراد إنجازها في بلد مثل أثيوبيا أو سواها من الدول الواقعة في قعر دول العالم تخلفا وفقرا ومجاعة واستبدادا ووو إلخ .
صديقي عبد الملك كان محقاً في انبهاره؛ فما من شيء خارق ومبهر إلا ويكون مدعاة للدهشة والإعجاب ، ففي أديس أبابا – ويعني اسمها الزهرة الجديدة - ما من فنجان قهوة في حانة إلا ومرفق به بندول لاصق مكتوب فيه الضريبة المجتزأة من قيمة المشروب!.
ما من سلعة تباع لك من بائع متجول في الشارع أو من سوبر ماركت أو سوق إلا وتجد كرت الضريبة مرفق بالسلعة أياً كانت كبيرة أو تافهة!.
وإذا كانت تجربة أثيوبيا الفيدرالية قد حققت أفضلية وفي ظرفية قصيرة, فان هذه الأفضلية لم تأتِ مصادفة أو نتاج ثروة نفطية أو بحرية وإنما بسبب نظامها الفيدرالي المانح أقاليمها التسعة سلطةً شبه كاملة على مواردها وإنفاقها .
في بلادنا هنالك فاقد ضرائبي قدره ثمانية مليار دولار سنوياً.. أحدثكم هنا عن بلد فقير مهدر لمليارات الدولارات يقابله بلد ناهض ومتطور لا يفوته سنتاً واحداً, كما ولا يتساهل أبداً مع كل شخص لا يدفع هذه الضريبة وان كانت " برات " وعلى فنجان شاي أو قهوة .
محمد علي محسن
إخوتنا في المولعة والفدرلة وبلقيس!! 1546