قبل أسبوعين بدأ الجيش اليمني عمليات واسعة ضد عناصر تنظيم ‘القاعدة’ التي اتخذت من بعض المناطق الجبلية في شبوة وأبين ملاذاً لها، كما هو الشأن في بعض المناطق الصحراوية في مأرب وحضرموت.
بدا واضحاً أنه بعد سنوات من وقوف الجيش في موقف المتلقي للضربات، أنه الآن يأخذ زمام المبادرة، وبدا واضحاً كذلك أن الجيش يريد أن يرسل رسالة بهذا المضمون داخلياً وخارجياً. وكما حقق هجوم الجيش نجاحات مهمة على هذه الجبهة عسكرياً، فإن الرسالة الإعلامية حققت التفافاً شعبياً مؤيداً للجيش.
كان التحرك الأخير للجيش مهماً وملحاً بعد مئات الأرواح التي حصدتها ‘القاعدة’ بين رجال المؤسستين العسكرية والأمنية، وبعد أن أصبحت صورة الجيش معرضة لأغباش كثيرة جراء الانقســـامات التي حصلت داخل المؤسسة العسكرية إثر أحداث 2011، وما تلاها.
دخل الجيش مواقع مهمة كانت لسنوات تحت سيطرة ‘القاعدة’، وحقق تقدماً ملحوظاً ضد عناصر فرت من وجهه مع إيمانها بأنه ‘من الكبائر الفرار يوم الزحف’.. هذا أمر مهم في المعركة ضد هذا الفكر الدخيل علينا من قبل عناصر لا تنتمي إلى ثقافتنا العربية والإسلامية المتسامحة. غير أن المشكلة مع مثل هذه العناصر والتنظيمات أنها عندما تلتم في (إمارة) بعينها يذهب كثير من جهدها لإدارة شؤون (الإمارة)، غير أنها عندما تـُضرب، وتجلى عن المنطقة التي كانت تسيطر عليها، فإنها تصبح أشبه بقنبلة ضخمة تنفجر إلى شظايا صغيرة، تستطيع كل شظية أن تحدث بمفردها دماراً وقتلاً فاجعين. حيث تتشرذم هذه العناصر، وتعيد تشكيل نفسها في مجاميع صغيرة، خفيفة الحركة، وسهلة التكلفة، وتعود إلى أسلوبها المفضل ‘الأحزمة الناسفة’، التي لا تقل خسائرها عن خسائر المفخخات والهجمات المسلحة، كما حدث يوم 21 مايو/ايار 2012 عندما قتل عشرات جنود الأمن المركزي في ميدان السبعين في العاصمة صنعاء، وعلى بعد أمتار من القصر الرئاسي على يد أحد عناصر ‘القاعدة’، كان يتزنر بحزام ناسف.
وهنا تكمن خطورة المسألة، وتكمن في الوقت نفسه جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق قوى الأمن والاستخبارات، لأن الجيش لا يمكنه تتبع الموت المتجول الملتف على خواصر أولئك الباحثين ‘عن الشهادة في سبيل الله’، بل مهمة مكافحتهم، والتعرف عليهم، ومهاجمة مخابئهم تقع كلية على الأمن والاستخبارات بكافة فروعها، وخاصة الأمن القومي والسياسي والاستخبارات العسكرية، وهذا يدعو إلى ضرورة التنسيق بين هذه الأجهزة بشكل يستوعب متطلبات المرحلة، ومن هنا فإن انشاء جسم حكومي يجمع هذه الأجهزة في نسق إداري واحد، أمر مهم.
معركة اليمن مع ‘القاعدة’ ليست سهلة، وعلى الإعلام المصاحب للحملة العسكرية التي يشنها الجيش أن يميز بين ما هو جيد لدعم الجيش، وتحقيق الالتفاف الشعبي حول مهمته، وما يمكن أن يكون مضللاً جهة إعطاء رسائل واهمة عن قرب نهاية ملف القاعدة في البلاد. إذا أننا لا نزال بعيدين عن حسم هذا الملف، على الرغم من النجاحات الواضحة لحملة الجيش الأخيرة ضد ‘القاعدة’ التي يصدق عليها أحياناً القول إنها ‘تنتصر يوم أن تنهزم’. وفوق ذلك ينبغي الإشارة إلى بعض النقاط:
أولاً: ينبغي استثمار التقدم الذي حققه الجيش ضد عناصر ‘القاعدة’، بإجلائها عن إماراتها الوهمية التي أقامتها في بعض المناطق في محافظتي شبوة وأبين، وينبغي استثمار هذا التقدم لصالح استعادة ثقتنا بالجيش، واستعادة الجيش ثقته بنفسه؟
وثانياً: حالة الزخم، والــــتأييد الشـــعبي الواسع لعمليات الجيش ينبغي أن تستثمر كذلك لصالح ضبط الأمن، واستعادة هيبة الدولة في مناطق نفوذ قطاع الطرق، والمخربين والمتمردين على شرعية الدولة.
ثالثاً: ينبغي أن نسعى إلى تشكيل حالة وعي شعبي بأهمية الجيش لنا في هذه الفترة الحرجة، وإبراز صورته حامياً لمكتسبات الوطن، وحارساً للوحدة والجمهورية. إذ لا يمكن أن نبني الدولة من دون جيش قوي له دعم شعبي واسع، وصورة ناصعة ووجود قوي على كامل التراب اليمني، من دون منازع من أي جماعة أو مليشيا مسلحة خارجة عن.
والحق أن التأييد الشعبي الذي حظي به الجيش في عملياته الأخيرة يؤشر إلى عمق الوعي الشعبي بخطر ‘القاعدة’ وغيرها من التنظيمات والمليشيات الخارجة على، كما أنه يبعث برسالة إلى الفرقاء السياسيين بضرورة تسريع وتيرة الخروج من المرحلة الانتقالية، ووضع الخلافات السياسية الكيدية جانباً، وتوفير الغطاء السياسي للجيش في مهامه.
رابعاً: ينبغي أن تذهب صورة الجيش الذي يتلقى الضربات من هنا وهناك، ويظل في موقع رد الفعل، في أحسن الأحوال، لتحل محلها صورة الجيش الحيوي الديناميكي، سريع الحركة، الذي نجده حيثما تقتضي المهام الوطنية الكبرى، وليس حسب اقتضاء الأهواء الحزبية والمصالح السياسية.
خامساً: ‘القاعدة بغت وتعدت وأجرمت جرائم كبرى في قتالها ضد ‘التحالف الصليبي اليهودي’ الذي قدمت له ما لا يمكن أن يحلم به من استنزاف لقوى الأمة، وتشويه لصورة الإسلام، وعلى الأئمة والدعاة والعلماء الوقوف موقفاً واضحاً إزاء هذه الجرائم، التي يعد السكوت عليها ضرباً من التراخي في المسؤولية الملقاة على عواتقنا جميعاً. وعلى الذين لا يزالون يتعاطفون مع فكر عناصر ‘القاعدة’ مشاهدة لقطات من فيديو الهجوم على مستشفى وزارة الدفاع أو جثث جنود الأمن المركزي في ميدان السبعين في صنعاء.
سادساً: أصاب الهجوم القوي للجيش على ‘القاعدة’ الكثير من المعنيين بالذهول، فالحوثيون في حالة ترقب، ووجل، إذ فاجأتهم القدرة العالية التي تمتع بها الجيش خلال هجومه الأخير، وحبسوا أنفاسهم للخطوة القادمة للجيش، وعليهم إعادة حساباتهم، لأن الرسائل التي أراد الجيش أن يبعثها من خلال هجومه على ‘القاعدة’ لا تخص هذا التنظيم المتطرف وحده. الحوثيون والمخربون وقطاع الطرق وعصابات الإجرام المنظم التي تستهدف الأجانب والمهربون، وتجار المخدرات، كل هؤلاء معنيون بالرسالة التي ترسلها عمليات الجيش في شبوة وأبين، حتى لو لم تكن مكافحتهم جميعاً داخلة ضمن مهام الجيش.
سابعاً: خلال ثلاث سنوات من ربيع الاضطرابات الأمنية والتحولات الاجتماعية والقيمية والمفاهيمية، تبرز أهمية الجيش كمؤسسة وطنية غير مسيسة، هدفها حماية الجمهورية والوحدة. ففي بحر التحولات المتلاطمة تظل الجيوش معولاً عليها شريطة أن تبنى بناء حديثاً، وأن تتكرس لديها عقيدة وطنية غير مسيسة. وهذه هي الخطوة القادمة بعد أن أنجزت إلى حد كبير مهام إعادة هيكلة الجيش.
ثامناً: لا أحد يريد إراقة قطرة دم واحدة خارج إطار القوانين، لكن هذه الفوضى الأمنية لا بد لها أن تنتهي، ولا بد أن يشعر الناس أنهم في أمان على أرواحهم وأموالهم، أما استمرار الوضع على ما هو عليه، فلن يؤدي إلا إلى المزيد من الفلتان الأمني الذي نشكو منه.
تاسعاً: ملف الجيش موضوع على جداول أعمال أصدقاء اليمن، والعمل على استكمل بنائه الجديد، وتدريب قوى النخبة فيه مهم لضـــــبط الأوضـــاع في البلاد، بما يخدم المصالح الوطنية لليمن أولاً، ويضمن بالتالي مصالح القوى الدولية والإقليمية في البلاد.
عاشراً: الحرب على ‘القاعدة’ والجماعات المتطرفة أوسع من بعدها الأمني، ولذا لا بد من وضع استراتيجية وطنية شاملة، تحشد لها كافة الجهود التربوية والثقافية والإعلامية والدينية والاقتصادية. وقد سئل وزير الخارجية الامريكية جون كيري الأسبوع الماضي عن تفسيره للأسباب العميقة وراء ما تقوم به جماعة ‘بوكو حرام’ في نيجيريا من أعمال بشعة، فرد من دون تردد بكلمة واحدة: الفقر. ولعل القرار الجمهوري الصادر يوم امس الأول بتشكيل لجنة لإنشاء مركز ‘إعادة تأهيل المتطرفين’ يصب في هذا السياق.
وأخيراً ‘القاعدة’ تلقت ضربات موجعة، غير أنه بالمقابل، لم يصب أي من قيادات الصف الأول فيها بأذى، علاوة على أن مئات من أتباعها فروا إلى مناطق أخرى في البيضاء وحضرموت ومأرب وغيرها، ومنهم من تخفى في منطقته ذاتها. ومن هنا تأتي أهمية اليقظة الأمنية، ومن هنا تأتي أهمية تحسين البيئة الاقتصادية في المناطق التي تستغل ‘القاعدة’ فقر أبنائها لتزرع فيهم أفكارها، ومن هنا تأتي أهمية الانفراجة السياسية السريعة، والاستكمال السريع لمتطلبات المرحلة الانتقالية، وصولاً إلى تطبيق مقررات الحوار الوطني الشامل.
القدس العربي
د.محمد جميح
اليمن.. الجيش يتحرك 1703