أعجب ما فينا هو أننا – وبالذات العرب – جعلنا من دين الإسلام مجرد ظاهرة صوتية ومجرد طقوس مكررة نؤديها في أوقات معلومة ومجرد تراتيل وتمتمات ومظاهر احتشاد كثيف نمارسه كعادة لا كعبادة جوهرها اتصال أفئدة العباد بمعبودها الخالق المنيب العظيم.
ومجرد ظاهرة إرهاب يتم تصديرها وتسويقها إلى شعوب العالم ومجرد أحزمة ناسفة ودم قاني مهرق وجماعات متوحشة بربرية وذقون مسبلة بالخوف والكراهية للحياة وأبدان محشوة بالديناميت ووجوه كالحة خاوية مخيفة خطرة ومجرد نسوة مهانة كرامة وحرية وجسداً.
باختصار.. العبادة باتت عادة تؤدى خمسة مرات في اليوم كإسقاط واجب لا كفريضة رجائها الغفران والصفح من رب السماء.. لا أعلم من القائل: لقد حملنا السنة النبوية ما لا تطاق حمله " فمن فرط ما علق بها من مأثورات جامدة متزمتة مغالية متنطعة في فهمها وقراءتها لسيرة الرسول صارت هذه السُنَّة مثقلة بتراث فقهي بشري تجاوز القرآن وتصادم معه أحيانا وإلى مستوى الاحتقار والإذلال للتفكير والمنطق.
كما ومن تجلياته أنه بات مقدماً على النص السماوي, فضلاً عن أنه بات معقداً ومعطلاً لكل ما من شأنه صيرورة الحياة الانسانية وتماهي الاديان مع موجباتها وضروراتها ومنافعها وتعايشها وتجددها وتطورها.
هؤلاء الفتيان الطامعون برغد الجنة وحورياتها أعدهم قرابين لثلاثية الفقر والجهل والحرمان العاطفي، فالإنسان الجائع العاطل لا تنتظر منه أن يكون مخلصا لوطنه ملتزما بقيمه وضوابطه فكما قيل بان الكفر والفقر صنوان.. الجاهل كذلك حين يجهل حقيقة انه ما من فردوس افضل من جنان ناسك مجل للحياة والخير والزهد والحق.. أما ثالث هذه الاثافي فنتاج حرمان عاطفي وجداني للجنس الآخر فكان من تجلياته الانتحار كأقصر السبل إلى غانيات الجنة وملذاتها المشبعة لغريزة مكبوتة لم تنل نصيبها من متعة الدنيا ونسائها.
غفل هؤلاء أن الانتحار ليس حكرا على طائفة أو فرقة دينية مسلمة متشددة مغالية بتعريف ذاتها كفئة ناجية من لظى الجحيم، فمثل هذا الاعتقاد الخاطئ سبقهم إليه حركات وجماعات دينية يهودية ومسيحية ووثنية وهندوسية وكونفوشيوسية, فما من دين يحظ على الانتحار؟ إنما هنالك قراءات وتفسيرات خاطئة محرضة اتباعها للموت القسري اعتقاد منها بطاعة ومكرمة.
فما من دين سماوي او بشري إلا وعُرف فيه فئة متزمتة في فهمها وتأويلها وقراءتها؛ بل وبتقديم نفسها كفئة وحيدة متفردة بفهم وتجسيد الحق المطلق. لنأخذ مثلا انجيل المسيح الذي لم يكتف بتفريعه إلى أربعة أناجيل والى ثلاث طوائف كنسية كاثوليكية وبروتستانتية وارثوذكسية وإلى ألفي حركة دينية فقط في الولايات المتحدة وألف وستمائة حركة في بريطانيا.
فالمسيحية محتكرة في أصولية سلفية بروتستانتية وهذه البروتستانتية محتكرة أيضاً بطائفة إنجيليكانية تدبيرية تعد نفسها الفرقة الوحيدة المعبرة عن روح الدين المسيحي الخالص النقي الملتزم بتطبيق نصوص الانجيل والتوراة حرفيا فضلا عن انها الطائفة الوحيدة الناجية من معركة سيخوضها المسيح في موضع "همرجيدون" في فلسطين .
فبناء وقراءتها الحرفية الاحادية للعهدين المنزلين على موسى وعيسى فإن الرب تكفل برفعها الى السماء تاركا معظم خلقه - بما فيهم غالبية المسيحيين – لمصيرهم المحتوم ككفرة وملحدين ومارقين وعصاة سيقتلهم المسيح ويهرق دمهم جميعا قربانا لعودته الثانية، وتكريما للفرقة الناجية الوحيدة المؤمنة به والتي رفعها الله الى علياء سماء الى حين ينتهي المسيح من مهمة تطهير الارض وتنظيفها من ذرية آدم باستثناء ألف واربعمائة من اليهود الذين سيبقي عليهم بعيد ردتهم عن يهوديتهم واعتناقهم لدينه، فهؤلاء والى جانب الفرقة الناجية المرفوعة في السماء هم اتباع المسيح واصفيائه الذين اختارهم الله الى جوار المسيح حين يحكم ألف سنة يعم فيها الخير والعدل والسلام.
لدينا فرق وطوائف شيعية وسنية ووجود اربعة مذاهب سنية أكثرها تشددا وتزمتا الفرقة الحنبلية التي أتى منها الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي اتخذ من مسجده في الدرعية في نجد المكان المنغلق المعزول المتخلف حضاريا وتاريخيا ومجتمعيا منطلقا لدعوته المبشرة المجددة الباعثة لسلفية اصولية طمرتها قرون من الممارسات الخاطئة الضالة عن جادة الدين القويم الصحيح الموحد الذي جاء به رسول الحق وعمل به وخلفائه وصحبه ومن نهج نهجهم.
افكار ورؤى متطرفة مغالية في التزامها وقراءتها وتفسيرها، فرقة وهابية حنبلية تشبه لحد الفرقة التدبيرية في البروتستانتية، فالحال أن هذه الوهابية غالت كثيرا في فهمها وتجسيدها للقران والسنة النبوية ولحد جعلها مختزلة دين الاسلام بطقوس وشعائر جامدة منغلقة على ما دونها من افكار ورؤى وفهم ومعرفة وواقع مختلف متجدد متطور ما فتئ يلقي بتحدياته الاقتصادية والحداثية والحضارية على المجتمعات والأديان السماوية والوثنية.
وبما انها الفئة الوحيدة المعنية بحمل راية التوحيد وتصحيحه وتنقيته من كل شائبة علقت او انحرفت أو ضلت، كما وهي الفرقة الوحيدة المحتكرة لحق التفسير والتجسيد لدين الاسلام وهدى رسوله؛ فإنها المكلفة وحدها بتصويب كل الضلالات والشركيات والأخطاء التي علقت وسادت في مذاهب أهل السنة وتاليا في الشيعة واشياعهم .
سلفية الوهابية كان مستهلها تحالف بين أمير وشيخ، بين سلطة حاكم ودعوة إمام، اتفاق بين عائلتي آل سعود وآل الشيخ، واحدة أخذت على كاهلها السلطة السياسية والأخرى تم منحها السلطة الدينية.
ولأن الامارة بمضي الوقت أخذت بالتمدد والتوسع والانتشار دون توقف حتى بعد ان استولت على مساحة قارة من الحجاز واليمن والعراق والخليج؛ فإن الدعوة ايضا كانت مصاحبة وملازمة، بل وداعمة اساسية في ثورة الامير على العثمانيين والهاشميين والإدرسيين والمتوكليين وكذا مشايخ ووجهاء قبائل نجد واليمامة والطائف والساحل الذين طالتهم ثورة الأمير ودعوة الشيخ.
فكلاهما وبحكم سيطرتهم على أهم بقعة مقدسة وكذا أكبر مخزون ثروة أخذا بالتوسع والانتشار وتحديدا خلال النصف قرن الاخير الذي اعده أكبر نكبة على الاسلام والمسلمين، فباسم الجهاد وخدمة الدين ونشر رسالته وتعاليمه تم انتهاكه والإضرار به سلوكيا وروحيا ووطنيا ودوليا وفكريا وحضاريا وانسانيا ولحد بات يستلزمه أكثر من ثورة اصلاح دينية كي تغير وتبدل ما رسب في الذهن والممارسة.
وأكثر بكثير مما أُنفق على دعوة الوهابية ومذهبها المتشدد المنغلق الذي كان سبباً في كل هذا الغثاء والرغاء والخوف والقتل والإرهاب والعنف والجهل والتخلف الحضاري والإنساني، واحسب له صناعة الاستبداد والكراهية وتغييب العقل والمنفعة وطغيان الجهل والعنف.
نعم فمن الوهابية العابرة للحدود ولدت القاعدة وطالبان وداعش وانصار الشريعة وجيش ابين عدن، ومن دعاتها وأفكارها وأموالها وكتبها ومن سلفية براميل النفط وامراء النفط توسعت وانتشرت وتضخمت ولدرجة أنها صارت تماثل فيروس نقص المناعة " الإيدز" المنهك والفتاك للابدان الضعيفة القابلة بانتشار عدواه, كذلك هي مجتمعاتنا بكونها ضحية وهنة خائرة مقارنة بسواها من الشعوب المنيعة القادرة بوعيها الجمعي وبما تمتلكه من دول قوية على مقاومة جائحة التطرف الديني أيا كان مصدرها داخليا او خارجياً.
محمد علي محسن
الوهابية والطائفة الناجية في المسيحية!! 1888