ذات يأس، قرر محمد البوعزيزي أن يقدم جسده قرباناً لآلهة الثورة، لكنه لم يكن يعلم وهو يشعل الثقاب في جسده النحيل أنه سيغير الخارطة والفصول والمواسم. ومن جسد الشاب التونسي المتفحم، تشعب الغضب في شرايين الخريطة، وخرجت الشعوب أفواجاً تبحث عن طريق للخلاص من مستنقعاتها السياسية الآسنة.
وفي بعض البلاد، تغيرت المواسم بالفعل، فاهتزت عروش الجبابرة، وتساقطت أحجار القصور الفاشية فوق رؤوس عمارها، فهرب منهم من هرب ومات من مات. وعلى درب البوعزيزي، خطا كثير من القانطين، لكن رماد أجسادهم لم يتجاوز حدود رفاتهم، ولم يضمن لمن بقي خلفهم أي حياة تستحق الحياة.
غير بعيد من مهد الغضب، وعلى يمين الخريطة، قررت الباكستانية أمينة بيبي أن تستن بسنة البوعزيزي، فأراقت فوق جسدها الغض وقود اليأس وأضرمت النيران، لكن أحدا من رجال الشرطة الذين وقفوا بالقرب من زفراتها اليائسة، لم يهرق فوق جسدها الملتهب سطلا من ماء.
في الخامس من يناير الماضي، ذهبت فتاة البنجاب إلى الجامعة بحزمة من الكتب، لكنها لم تعد من هناك بشيء. ولم تستطع أن تفتدي عفتها بالكتب أو الغضب أو التوسلات. واضطر غلام صابر إلى التخلي عنها أمام خمس فوهات مصوبة نحو رأسه الصغير، وأعين تتطاير شرراً وفساداً وشبقاً.
لكن قصة فتاة البشتون لم تنته في مشفى ملتان المجاور كما خطط لها المغتصبون، فقد شاء القدر أن تنجو الفتاة بحروقها لتفتح ملف فساد كبير سكتت عنه شهرزاد البنجاب عقودًا. وأمام مقر الشرطة باح الجسد بأسراره وأسرار أخرى.
لم تفقد أمينة عذريتها بين أفخاذ خمسة موتورين فقدوا مروءتهم على ناصية وطن فحسب، بل شارك في اغتصابها شرطي فاسد غض الطرف عن حروقها البالغة وآلامها النفسية المبرحة، وأخفى من الأدلة ما يدين زعيم المغتصبين.
كانت فتاة الثامنة عشر تتعثر في مصيبتها النفسية، ولا تدري كيف تواجه مجتمعاً يعامل المغتصبة معاملة الزانية، ويرجمها كل يوم بنظرات وهمزات آثمة. وما كادت أمينة تتعافى من جروحها السطحية ورضوض جسدها الواهن، حتى قرر ضابط التحقيق أن يغتصبها تارة أخرى أمام قوانين بلاده البائسة وكفتي قضاء تتأرجحان ذات يمين وشمال دون أن تستقر على عدالة.
وما إن علمت أمينة بإخلاء سبيل زعيم المغتصبين، حتى اتخذت قرارها المبيت، فحملت قنينة غضبها وعودا من ثقاب ووقفت أمام مخفر المغتصبين، وعن سابق ترصد بما تبقى لها من أنفاس مكتومة قررت الفتاة أن تغادر. وعلى طريقة البوعزيزي، رحلت أمينة مخلفة آلاف الشهقات على مبعدة أسبوع واحد من يوم المرأة العالمي الذي لن تحيا لتحتفل به في بلاد تجيد الاغتصاب ولا تحفظ عفة.
لكن أهالي البنجاب لم يثوروا كما ثار أهل تونس، فالقبر في شريعة المجتمعات الفاسدة أولى بأي فتاة تفقد عذريتها وإن تحت تهديد السلاح. وتخللت رائحة الشواء أنوف الواقفين على ثغور الدين هناك، فلم تزكم أنوفهم التي أفسدتها رائحة البارود والقهر، ولم تغير رياح الفساد المواسم الراكدة في الباكستان كما فعلت في مشرقنا العربي لأن المرأة في عرفهم عورة، والدفاع عنها عورة، والثورة لأجلها فضيحة.
لو كانت أمينة حية، لابتسمت اليوم في رضا وهي ترى الأصفاد ترد إلى معصمي مغتصبها، ولربما بصقت في وجه ضابط التحقيق الفاسد وهو يسحب من قفاه إلى زنزانة حقيرة بأمر جاء متأخراً للغاية من سلطات لا تحركها إلا رائحة الجلود المحترقة. لكن المؤكد أن المغتصبات في الباكستان ستفكرن ألف مرة ومرة قبل أن تحمل أياديهن المرتعشة أدلة الإدانة إلى مسئول التحقيق.
عبد الرزاق أحمد الشاعر
حريق بلا دخان 1036