باختتام مؤتمر الحوار الوطني الشامل لأعماله في 25 يناير/كانون الثاني 2014م بعد عشرة أشهر من إعلانه في 18 مارس/آذار 2013م كأحد بنود المبادرة الخليجية، يكون اليمن قد قطع شوطاً كبيراً في مساره الثوري السياسي الانتقالي، كواحدة من أهم التجارب السياسية الثورية ينظر لها -بجانب التجربة التونسية- على أنهما أنجح ثورتين في الربيع العربي حتى اللحظة، لتغليب المسار السياسي فيهما على خيارات العنف والعدمية السياسية.
ومع ذلك، يبقى الحكم في الحالة اليمنية على نجاح الحوار الوطني بمجرد اختتام أعماله سابقاً لأوانه بالنظر إلى المشهد اليمني الراهن الذي لا يزال مليئاً بالتحديات الكبيرة والخطيرة، بالنظر إلى تطورات الأحداث على الصعيدين الأمني والعسكري مؤخراً، وموقف بعض الأطراف من مخرجات الحوار وضمانات تنفيذها على الواقع.
صحيح أن المسار الذي اتخذه اليمنيون هو الحوار والنقاش لتقرير مصير بلادهم، وتجنيبها منزلقاً خطيراً كما هو الحال في سوريا من حروب أهلية طائفية طاحنة، أو مصر حيث تجلت دموية الانقلاب العسكري، أو الفوضى الأمنية كما هو الحال في ليبيا، غير أنه ما زال أمام هذه التجربة اليمنية بمؤتمر الحوار تحديات كبرى بات يخشاها الكثيرون بعد تعليقهم آمالاً كبيرة على مخرجاته.
ويأتي في مقدمة تلك التحديات جملة من التحديات الموضوعية والفنية التي تحول أو تعرقل تنفيذ بنود وآليات مخرجات ذلك الحوار، ولا يتوقف الأمر على مجرد الاكتفاء بجملة المخرجات المكتوبة كحبر على ورق، وذلك بالنظر إلى تجربة المبادرة الخليجية ومرحلتها الانتقالية الأولى التي لم يتسنَ تطبيق غير النزر القليل من بنودها، وظلت معظمها عالقة حتى ما بعد مؤتمر الحوار.
وباتت المخاوف تحوم حول إمكانية تكرار سيناريو المرحلة السابقة، ومن هنا بات من المبكر جداً الحديث عن نجاح مؤتمر الحوار الوطني من عدمه في ضوء كل ذلك، وفي ظل بعض التطورات المفاجئة التي حدثت مؤخراً.
تحديات موضوعية
رغم الاحتفاء الكبير رسمياً باختتام مؤتمر الحوار لأعماله -وهي بالفعل محطة مهمة في تاريخ اليمن المعاصر- توافق فيها اليمنيون على حل مشاكلهم بالحوار البناء، لكن هذا لا يخفي أن هناك نقاطاً جوهرية لا يمكن تخطيها وعدم أخذها بعين الاعتبار كمحددات موضوعية على ضوئها يمكننا الجزم بإمكانية نجاح الحوار من عدمه.
وتأتي في مقدمة تلك المحددات مؤسستا الجيش والأمن، واللتان لا تزالان كما هما من دون أي إجراءات تنفيذية بخصوص إعادة هيكلتهما بما يتوافق مع بنود المبادرة الخليجية ومخرجات لجنة الجيش في مؤتمر الحوار التي طالبت بإعادة هيكلة هذه القوات، وفقاً لمعايير مهنية احترافية، باعتبارها ضامناً وحيداً لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني واقعياً، لما تعيشه المؤسسة العسكرية من تنازع ولاءات متصارعة.
عدا عن ذلك، تمثل قضيتا الجنوب ومطالب الانفصال هناك وتشتت حواملها السياسية، وسلاح الجماعات المسلحة التي انضوت في مؤتمر الحوار الوطني -كالحوثية التي دشنت مرحلة ما بعد الحوار بحروب طاحنة في محافظتي عمران وصنعاء لتوسيع نفوذها وسيطرتها على مناطق جديدة تحقق بها مكاسب سياسية كبيرة ترى أنها لم تحققها في مؤتمر الحوار الوطني- محورين مهمين على ضوء تحقيق أي تقدم فيهما ستتحدد مدى إمكانية نجاح الحوار من عدمه أيضا.
ويعود ذلك لانعكاسات مثل هذه القضايا على مجمل سير العملية الانتقالية كلها، كما هو الوضع بالنسبة لجماعة الحوثي التي رغم توقيعها على وثيقة الحوار فإنها ما زالت تخوض حروباً طاحنة لتحقيق مكاسب على الأرض.
يأتي بعد ذلك التهميش الكبير والممنهج لقوى الثورة الشبابية وإبعادها عن المشهد السياسي كله منذ البداية، بل واستبدالها بعناصر أخرى، إما موالية للقوى الحاكمة أو ذات ولاءات خارجية مشبوهة، هذا فضلاً عن بقاء كل الأطراف المنتمية للنظام السابق في مواقعها وبعضها خارج مواقعها مع احتفاظها بكل امتيازاتها التي كانت تتمتع بها من قبل، بل والأخطر هو منح هذه الأطراف حصانة قانونية ضد أي مساءلة في ما يتعلق بممارساتها طوال فترة حكم نظام صالح.
تحديات فنية لوجستية
من التحديات الفنية -التي لا يمكن إغفالها أيضاً- ما يتعلق ببقاء معظم بنود وثيقة الضمانات دون تحديد أو تزمين يذكر، باستثناء الحديث عن فترة عام لإعداد الدستور والتجهيز لانتخابات رئاسية وبرلمانية لحكومة يفترض أن تتولى زمام الأمور بعد الفترة الانتقالية الثانية، أو ما أطلق عليها بالفترة التأسيسية.
مع ملاحظة أن الفترة الانتقالية الأولى -التي بدأت بانتخاب الرئيس التوافقي في 21 فبراير/شباط 2012 والتي استمرت لعامين- لم يتم خلالها تنفيذ أي من البنود المنصوص عليها في المبادرة الخليجية، وآلياتها التنفيذية، والتي كان في مقدمتها هيكلة الجيش والأمن وتحقيق الأمن والاستقرار، ووقف أعمال الاقتتال بين مختلف المليشيات والأطراف المتصارعة.
وهو ربما ما أدى ببعض الأطراف للحديث عن تمديد الفترة الانتقالية فترة إضافية أخرى من عام بالتنظير لذلك على أن الفترة الانتقالية هي استحقاقات ومهام وليس موعداً زمنياً محدداً، وهذا ما يخشى اليوم أن يتم تكراره بكل تفاصيله خلال المرحلة التأسيسية الثانية التي يكتنفها غموض شديد بالنظر إلى حجم التحديدات والمهام المراد إنجازها خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً بالنظر للمرحلة الانتقالية السابقة التي امتدت لعامين ولم يتم تنفيذ أي شيء من بنودها، فكيف سيتم اليوم تنفيذ كل ذلك خلال عام واحد.
من خلال متابعة معظم مخرجات الحوار الوطني -وهي في معظمها إيجابية يمكن البناء عليها ويمكن تعديل البعض الآخر منها- يلاحظ أن معظم تلك المخرجات لم تبنَ على أسس علمية منهجية، بقدر ما كانت أقرب إلى التوصيف العرضي للمشاكل دون النفاذ إلى ما ورائها من أسباب ومسببات، فعلى سبيل المثال في ما يتعلق بنظام الأقاليم، فالحديث عن هذا المخرج كحل للمشكلة اليمنية كان فيه نوع من التسطيح الشديد، والقفز فوق وقائع علمية واضحة تكمن في الغياب التام للدولة ومؤسساتها أساساً، وليس في شكل نظام الحكم.
فمسألة الأقاليم رغم أنها مسألة إدارية بحتة تتعلق بشكل من أشكال الإدارة السياسية للدولة فإنه تم التركيز عليها باعتبارها حلاً جوهرياً للأزمة اليمنية المعقدة، والتي تتجلى بالفشل الإداري الكبير في إدارة البلاد من قبل النظام السابق وحكوماته المتتالية التي حولت البلاد إلى ما يشبه البازار، وتعاملت مع ثرواته كغنائم حرب، أو ثروة لا مالك لها.
ولم تكن الإشكالية في مركزية تلك الدولة ونظامها بقدر ما كانت الإشكالية تكمن في لصوصية وجهالة تلك القيادة التي تعاطت مع أموال الشعب بطرق لصوصية مكشوفة للأسف، هذا عدا عن إدارتها البلاد بطريقة بدائية متخلفة تقوم على العصبية القبلية والأسرية.
ومثل قضية الأقاليم أيضاً، تم النظر إلى كثير من القضايا بهذا النمط البدائي الذي ينظر إلى أزمة اليمن على أنها بمثابة نزاع عائلي بين طرفين متصارعين، وليست قضية دولة غائبة ومغيبة
وشعب يبحث عن بناء دولته وفقاً لأحدث النظريات السياسية الحاكمة، وهكذا مضت معالجة الأمور بهذا الشكل من السطحية الشديدة التي ستغدو بمثابة بذور لمشاكل مستقبلية كبيرة، يأتي في مقدمتها تفتيت هوية الدولة، بالتعاطي مع الفدرالية وفق مفهوم بدائي ملتبس، على أنها تقسيم للجغرافية وليس تقسيماً للمسؤوليات.
الشباب الحاضرون الغائبون
تمثل هذه الإشكالية واحدة من أهم وأخطر الإشكاليات المتعلقة بغياب شباب الثورة وقادتها عن إدارة المشهد الانتقالي الراهن في مرحلتيه الأولى والثانية، بل والأخطر هو تعمد تغييب هذا النوع من الشباب المسكونين بهاجس التغيير بقوة، لكنهم وجدوا أنفسهم مقصين خارج دائرة التأثير وصناعة القرار عمداً، فيما تم استبدالهم بشباب صُنعوا على أعين الرقيب الخارجي، وتم دفعهم كممثلين لشباب الثورة في ما لا علاقة لهم بالثورة وأهدافها لا من قريب ولا من بعيد، خاصة في ضوء صمتهم عن حذف كل مفردات ثورة 11 فبراير السلمية من كل تقارير مؤتمر الحوار.
قد يقول البعض إن شباب الثورة هم الذين أوصلوا أنفسهم إلى هذا المستوى من الغياب عن التأثير في رسم تفاصيل المستقبل الذي حلموا به، إما لغياب خبرتهم السياسية أو لحالة الشتات والفوضى التي يعيشونها، بفعل انعدام حامل ثوري شبابي ناظم، إلا أن ما لا يخفى على المراقب هو أنه كان هناك تعمد لتغييبهم من قبل الفاعلين الرسميين داخلياً وخارجياً بالنظر إليهم كأصحاب قضية لا يمكنهم أن يساوموا حولها كغيرهم من القوى الأخرى.
وعلى أي حال، لا يعني هذا أن شباب الثورة بمعزل عن تحمل جزء من مسؤوليتهم تجاه هذا الخطأ الاستراتيجي الذي وقعوا فيه بغيابهم الكبير، والذي تم ملؤه من قبل ثوار صنعتهم أحزابهم على عجل أو سربتهم سفارات القوى الدولية على حين غفلة من الجميع إلى منصة القرار الذي تبدى جلياً في موقفهم من المخرجات النهائية لمؤتمر الحوار الوطني وما تعلق به، خصوصاً بمفردة ثورة 11 فبراير السلمية وكل متعلقاتها.
سلاح جماعات العنف
من الأخطاء الاستراتيجية الكبيرة -التي وقع فيها الحوار الوطني ومن فاعليه الكبار- هو إغفالهم لأهم قضية ستظل بمثابة تحدٍ كبير لأمن واستقرار اليمن والإقليم برمته، وتمثل ذلك في قبول جماعات العنف والسلاح ضمن إطار مؤتمر الحوار الوطني دون أي شروط تذكر على قبولهم في الحوار من عدمه، وهو ما شجع تلك الجماعات على أن تضع رجلاً في الحوار، وأخرى في ميدان الحروب، حتى في فترة ما بعد انتهاء الحوار.
ويتبدى ذلك جلياً في جماعة الحوثي المسلحة كأخطر الجماعات المسلحة يمنياً على الإطلاق، وهي التي باتت تهدد ليس فقط بإفشال الحوار من عدمه، بل تهدد أمن واستقرار اليمن والإقليم، لما باتت تمثله هذه الجماعة من خطر كبير، تمثل بشنها حروباً متتالية في أكثر من منطقة ومكان على الأرض اليمنية رغم ضمها الحوار، لكنها لا تؤمن بحسب ممارستها غير شرعية السلاح الذي ولدت من بين دخان باروده، هذا عدا عن إرثها الكهنوتي في نظرية الحق الإلهي بالحكم، ممثلة بنظرية البطنين الهادوية نسبة للهادي يحيى بن الحسين مؤسس المذهب في القرن الثالث الهجري.
وعلى الطرف الآخر، تنشأ جماعات مقابلة لهذه الجماعة، كالقبائل التي تخوض ضدها هذه الجماعة حروباً، أو كما حصل مؤخراً مع جماعة دماج السلفية التي تم إخراجها من صعدة، وقد تحولت إلى جماعة مسلحة بفعل قتالها من قبل الحوثيين، وخرجت من دماج بكامل عتادها بعد اشتراط تهجيرها، وهو ما بات يشكل تهديداً مستقبلياً للأمن والاستقرار، وبالتالي يتطلب هذا أن يتم إخضاع كل هذه الجماعات المسلحة
وفي مقدمتها جماعة الحوثي لسلطة القانون الذي يقتضي أن تسحب منها كل أنواع الأسلحة التي يجب أن تحتكر من قبل أجهزة الدولة فحسب.
التوافق المعيق للانتقال
سياسياً يكثر الحديث عن أن التوافق السياسي القائم في هذه المرحلة مثل مدخلاً مهماً لإنجاح مسار العملية الانتقالية، فيما الحقيقة المغيبة أن عملة التوافق -التي تعني تقاسم مؤسسات الدولة بين الأطراف المتوافقة، وإعادة توزيع أجهزة الدولة بين "المتحاصصين"- تمثل إشكالية خطيرة بالنظر إلى أن هذه العملية تعيق عملية الانتقال السياسي ديمقراطياً لركون هذه الأطراف السياسية إلى تطويل وتمديد مرحلة التوافق، لخوفها الكبير من الذهاب نحو أي عملية ديمقراطية قد لا تصعد بها إلى كراسي الحكم مرة أخرى.
وقد مثلت المرحلة الانتقالية الأولى -والتي امتدت لعامين- مثالاً واضحاً بشأن هذه الظاهرة التي باتت تشكل إحدى عقبات الانتقال الديمقراطي، وهو ما نخشى تكراره تالياً، هذا عدا عن خضوع عملية التغيير لاشتراطات هذه القوى، مما يعني أن التغيير سيظل خاضعاً لمعايير خاصة يتم تفصيلها وتفسيرها حسب رؤية هذه الأطراف التي تفضل أن تبقى العملية السياسية خاضعة لتوافقها المتعارض مع قيم التحول الديمقراطي الذي بات يستهوي هذه الأطراف عدم الذهاب إليه.
الجزيرة
نبيل البكيري
اليمن وتحديات ما بعد الحوار الوطني 1510