لطالما أعجبت في طفولتي بشخصية الرئيس الراحل ياسر عرفات، فخطبه الحماسية وغترته وقبلهما بالطبع أصبعيه الوسطى والسبابة المنتصبتين.. كنت أسأل وبفضول طفولي عن دلالة رفع أصبعيّ اليد فيتطوع احدهم مجيباً: انهما يعنيان الشيء ونقيضة، الحياة أو الموت، النصر أو الهزيمة وهكذا دواليك...
المهم في النهاية وعقب مسيرة طويلة خاضها الرجل ومنظمته الجامعة لكل أطياف الكفاح الفلسطيني كان قد رضخ ووقع لاتفاق أوسلو في النرويج سنة 94م, فخرجت الصحافة المناوئة لاتفاق منظمة التحرير وحكومة حزب العمال برئاسة إسحاق رابين بتعليقات ساخرة متهكمة من سلطة حكم ذاتي لا تتعدى مساحتها الأولية مدينتي غزة وأريحا؛ كاريكاتيرات تصدرت واجهات الصحف والمجلات؛ إذ باتت صبعا عرفات الاثنين تشيران إلى " غزة – أريحا " باعتبارهما نهاية لرمزية الأصبعين اللتين اشتهر برفعهما حقبة طويلة .
ما أخشاه اليوم هو أن المزايدة الكثيرة ستفضي بنا إلى عاقبة وخيمة أسوأ من سابقاتها ، فبدلا من إقليمين في الجنوب ضمن دولة اتحادية سداسية الأقاليم وفي حدود ما هو متاح وكائن وممكن سيقودنا شطط البعض إلى إضاعة الجنوب وأهله وفي أتون فوضى شاملة لا تبقي أو تذر شيئاً إلا وطاله الخراب والعبث.
فواقع الحال أننا لم نؤخذ من تجارب الماضي أو عبره ودروسه غير تكرار الأخطاء وبحماسة عجيبة قلَّما تجدها في مكان أخر. لكأن الهرولة لوحدة اندماجية فورية ومن ثم الفرار منها وبطريقة سافرة مستفزة أفقدتنا البصر والبصيرة ليست كافية لكيلا نهرول ثانية ورابعة خلف السراب والوهم والمجهول.
فكما أن أفعالنا الطافحة انفعالاً وغضباً قد سلبتنا ألبابنا في الزمن الماضي ولدرجة الجموح المجنون غير مدرك بان كل ما نفعله يصب جميعه بمصلحة القوى الرافضة لفكرة الدولة الاتحادية الموقع عليها مناورة وتكتيكا في العاصمة الأردنية يوم 20فبراير 94م, فكانت الحرب غير متكافئة القوة والعدة طريقة لإخراج الجنوب ومجتمعه من معادلة التوحد وتحت يافطة " الوحدة أو الموت " ما زالت أفعالنا في الحاضر على ذات المنوال المنفلت المستفز المنفعل ، وهذه مفردات سبق تجريبها ويحسب لها صناعة المزيد من الخصوم وخسران الأنصار .
اعجب ما في المسألة هو انه وفي حالة استعادة الدولة الجنوبية إلى سابق عهدها وحدودها, فإنها ستكون دولة اتحادية من ستة أقاليم ، فكما هو معلوم وثابت في أدبيات مكونات الجنوب المختلفة هي أن الدولة المركبة المتعددة الأقاليم، فضلاً عن كون معظم مؤتمرات ورؤى الفرقاء الجنوبيين لم تحسم خلافها حول حصة هذه الأقاليم من ثروتها النفطية والغازية والطبيعية .
فكل طرف يحمل مقترحاً بهذه النسبة وبناء على قربه أو بعده من أقاليم الثروة وهذا ما عكس نفسها على كامل الاتفاقات المحرزة إذ تركت المسألة الخلافية جانباً, بحيث تم التأجيل لها خشية من يكون حسمها بداية مقوضة لاتفاق الفرقاء حول الدولة وضرورة استعادتها باعتبارها خيارا جمعيا خلال مرحلة كهذه .
الآن أجدني مثل" أبو عمار"، فكلما لوَّح صديقي الصحافي خالد الجحافي " أبي لميس " المنافح بحماسة لاستعادة الدولة الجنوبية قابلته أيضاً برفع الأصبعين كناية عن إقليمي حضرموت وعدن .
الفارق بالطبع أن خالداً يماثل ياسر عرفات القائد الثائر بخطبه الحماسية الملهبة للجماهير التواقة لرؤية علم فلسطين خافقاً في القدس, فيما صاحبكم يكاد نسخة من عرفات العجوز الواقعي الذي أضناه الأخوة قبل الأعداء وأنهكه رفاقه الثائرون قبل المحتلين وغلب عقله على عاطفته؛ فكان ولابد من انحيازي لفكرة الإقليمين " حضرموت عدن " .
والفارق – أيضاً – أن اتفاق " أوسلو " غزة أريحا أولاً يعد فاتحة لدولة فلسطينية مستقلة على مساحة وحدود تم احتلالها في يونيو 67م, فيما اتفاق " صنعاء " أعده بداية لاستعادة الجنوب وأهله إلى كنف دولة موحدة تم الانقلاب عليها عسكرياً بدءاً من اجتياح الجنوب في يوليو 94م وحتى وقتنا الحاضر الذي أعلنت فيه الدولة الاتحادية الفيدرالية باعتبارها الحل الممكن والمقبول والمتاح والممهد لدولة جديدة وعادلة تؤسس لمرحلة تاريخية مختلفة تتقاطع كلياً ليس مع حقبة ما بعد الوحدة والحرب وإنما مع ماض يمتد إلى ما قبل التوحد.
محمد علي محسن
الجنوب وصديقي والرئيس عرفات..!! 1771