محاولة محمومة لا تهدأ ’لتغليب الأقلية’. نعم بهذا يمكن تلخيص مشكلة هذا الوجع الكبير المسمى ‘شرق أوسط’.
الأقلية اليوم يراد لها أن ‘تغلب’ الأغلبية، ولو إلى فترة من الزمن، من أجل حاجتين في نفس الجهات الدولية والإقليمية، التي تسعى لأن تأخذ الأقلية دور الأغلبية في المعادلة الجيوسياسية في المنطقة: الأولى هي أن تنهك مجتمعاتنا في صراع تعتمد فيه ‘الأغلبية’ على ‘حجمها الكمي’، بينما تعتمد فيه ‘الأقلية’ على ‘حجمها الكيفي’.
والثانية من أجل أن يأتي يوم يكون فيه التنكيل بالأقلية مرعباً حال انتهت عوامل صمودها في وجه الأغلبية، ومن ثم تبدأ مرحلة اجترار الأحقاد المكبوتة لدى الأقلية، إلى أن تواتيها الفرصة مجدداً ولو بعد حين، لتغلب الأغلبية، وتستمر لعبة الموت في هذه المنطقة الموبوءة بتنميط الأغلبيات والأقليات على أساس طائفي أو عرقي، ولكن في ثوب سياسي.
ولقد كانت لعبة ” أداة ناجعة منذ فترة الاستعمار الذي عمل على دعم أقليات معينة داخل مجتمعاتنا، وربط مصالحها به ليضمن ولاءها، بعد أن أوقع بينها وبين مجتمعها المحيط، لدرجة أن بعض الأقليات كانت تطالب المستعمر بعدم الخروج من المنطقة خوفاً من انتقام الأغلبية، في تاريخ معروف.
وعلى الرغم من رحيل المستعمر إلا أن النظام العالمي ظل يعتمد على مبدأ ” في منطقتنا إلى اليوم. وقد دأب النظام الاستعماري وبعده وريثه النظام العالمي على زرع ‘أقلية عرقية/دينية في المنطقة، ومن ثم تغليبها على أغلبية المسلمين (الأمة) وأقليتهم (الطائفة). هذه الأقلية الغالبة المزروعة هي إسرائيل التي على الرغم من أنها مثلت أقلية دينية وعرقية في المنطقة، فإنه تمت تهيئة الظروف لتغليبها على شعوب المنطقة بوسائل عسكرية واقتصادية وسياسية وإعلامية، أظهرتها للعالم في ثوب حضاري منمق، وفي شكل دولة مدنية متحضرة وسط غابة من العرب والمسلمين المتوحشين البداة الذين يريدون أن يقذفوا بها في البحر.
وبعيداً عن إسرائيل التي لا يحتاج نموذجها إلى مزيد تفصيل لإيضاح كيفية اللعب على تكتيك ” في ما يخص وجودها في البلاد العربية، بعيداً عن إسرائيل وفي داخل الصف المسلم ذاته، ننبه إلى حقيقة أنه خلال السنوات الأخيرة جرى تصوير الشق الطائفي بين العرب خصوصاً والمسلمين عموماً على أنه صراع بين طائفتين متكافئتين عددياً في الأمة (السنة والشيعة)، وجرى تسويق الأمر إعلامياً على أن الأمة منقسمة إلى نصفين متساويين: نصفها سنة، والنصف الآخر شيعة.
وهذا بالطبع خلاف الواقع، الذي يبدو فيه حوالي 90′ من الأمة متفقة على المبادئ والأصول فكرياً وعقدياً وتاريخياً، في وقت يتمذهب فيه حوالي 10′ من المسلمين بمذهب يختلف في بعض أصوله عن مذهب الغالبية الساحقة منهم. وما جرى من ترويج على أن الصراع المصطنع سياسياً داخل الأمة هو صراع بين طائفتين متساويتين عددياً كان بسبب عدم التفاف الجسد الأكبر للأمة حول بعضه لأسباب ضعف النظام السياسي الذي يمثل هذا الجسد الأكبر، في حين استطاعت الطائفة الصغيرة (الأقلية) أن تلتف حول بعضها بفعل السياسات الإيرانية التي كانت ترفع شعارات الوحدة الإسلامية، وتعني بها ‘وحدة/توحيد الطائفة’ مقابل ‘تفرق/تفريق الأمة’، بعد أن خدعت إيران الكثيرين بشعار الخميني عن الوحدة الإسلامية، المقصود بها بالطبع وحدة مجاميع إيران في المنطقة وتمزيق جسد الأمة الأكبر.
ومهما يكن من أمر فإن الصراع الطائفي الذي لا بد من الاعتراف به يظل صراعاً بين الأمة والطائفة، وليس بين طائفتين كما يصور اليوم. هو صراع الطائفة مع الأمة، أو صراع ‘الأقلية العددية’ مع ‘الأغلبية العددية’، لأن هناك قوى في المنطقة والعالم تريد لهذا الصراع أن يستمر، لكي تنشغل ‘الأمة’ بصراعاتها البينية مع ‘الطائفة’، بعيداً عن مشروعها الكبير الذي يراد لها اليوم أن تغيب عنه.
ومن تطبيقات قاعدة ” إقدام النظام الإيراني على تقديم نفسه على أنه الممثل الشرعي للمسلمين، في شكل مفضوح للتغطية على الحقيقة الساطعة التي تقول إنه مجرد ‘أقلية طائفية’ مكنتها ظروف تاريخية معينة من أن تأخذ أكبر من حجمها الحقيقي. وتستمر محاولات إيران بالتضافر مع قوى عالمية في تغليب الأقليات في المنطقة العربية، وضربها بأمتها في اليمن، حيث ‘يصرخ’ الحوثيون للفت الانتباه، وهم ‘أقلية’ تعتمد على الإعلام والآلة العسكرية لتغليب نفسها على ‘أغلبية’ اليمنيين، وتدخل في ذلك محاولات تغليب حزب الله ليس على اللبنانيين وحسب، ولكن على اللبنانيين والسوريين وحتى الفلسطينيين الذين يحاول حزب الله تقديم نفسه على أنه ممثلهم في كفاحهم الطويل من أجل استرداد القدس.
حقيقة أن شعور الأقلية لدى نظام الملالي في طهران، جعله يحاول عكس المعادلة بأن تكون لديه ‘الأغلبية السياسية والغلبة العسكرية’ في المنطقة، ناهيك عن الهدير الإعلامي القائم على تزوير الحقائق، ولإعلام إيران تاريخ طويل في التمويه على طريقة القرود الإيرانية التي غزت مؤخراً الفضاء، والطائرات العملاقة التي ركبتها وسائل ‘الفوتو شوب’ الإيرانية، ثم قدمتها للعالم على أنها قوة ردع جوية حقيقية، وليس آخر تلك الفرقعات الإعلامية البرنامج النووي الإيراني الذي دوختنا به إيران لتسلمه مؤخراً للشيطان الأكبر مقابل فك الخناق الاقتصادي من حولها.
وبعيداً عن الأغلبية والأقلية القائمة بين الأمة والطائفة على أساس مذهبي، هناك أيضاً تطبيقات لهذه القاعدة، تتمثل في المحاولات الدؤوب ل على أساس سياسي. فالديكتاتوريات القائمة في المنطقة، التي يمثلها النظام الرسمي العربي، الذي خيب آمال الأمة في تحقيق أحلام عصر الاستقلال، وأضاع منا قرابة الستين عاماً في مرحلة أدق ما يمكن أن توصف به هو كونها ‘مرحلة الشعار’، ذلك النظام الرسمي هو ‘أقلية سياسية’ سعت قوى إقليمية وعالمية إلى تغليبها ضد إرادة أغلبية شعوب المنطقة التي لم تشعر في يوم من الأيام بأن هذه الديكتاتوريات المتهالكة تمثل نبضها وأحلامها في حياة حرة كريمة.
ومرة أخرى ‘غـُلـِّبت الأقلية’، و ‘قـُلـِّلت الأغلبية’ بتحكم أنظمة الفرد والتوريث مسنودة بإرادة النظام العالمي القائم أساساً على استمرار خضوع المنطقة له بمقدراتها الاقتصادية وثرواتها الطبيعية، الأمر الذي لن يكون إلا إذا مكنت ‘الأقلية السياسية’ من التحكم في مصير ‘الأغلبية الشعبية’.
تلك إذن ثلاثة أمثلة أو ثلاثة تطبيقات لقاعدة ” أو ’تقليل الأغلبية’: الأول يمثل تغليب ‘الأقلية الدينية/العرقية’، كما هو الشأن مع النموذج الإسرائيلي، والثاني يمثل تغليب ‘الأقلية الطائفية’ وذلك بتمكين ‘الطائفة’ من التحكم في مصير ‘الأمة’، كما هو الشأن مع النموذج الإيراني، الذي يراد من خلاله تغليب ‘أقلية الطائفة’ على ‘أغلبية الأمة’ لإنهاك الأمة وشغلها عن مشروعها الحضاري، والتطبيق الثالث يمثل تغليب ‘الأقلية السياسية’، كما هو شان تغليب أنظمة الفرد التي يمثلها النظام الرسمي العربي، ضد إرادة ‘الأغلبية الشعبية’.
وتأتي محاولات ، سواء كانت أقلية دينية/عرقية (إسرائيل) أو أقلية طائفية مذهبية (إيران)، أو أقلية سياسية عسكرية (النظام الرسمي العربي)، تأتي هذه المحاولات لإنهاك الأمة داخلياً، باستمرار مسلسل الصراع داخل المنطقة، لأن ‘الأغلبية’ لن تسلم – بفعل حجمها الكبير – للأقلية بالتحكم في مقدراتها، كما أن الأقلية عندما تـَغلِب فإنها ستكون – حسب القوانين الاجتماعية – حليفة للقوى التي جعلت منها أغلبية، وسيكون ضررها على الأغلبية المغلوبة على أمرها، ولن تمثل الأقلية بحال- تهديداً للقوى العالمية التي مكنتها من الغلبة. ولذلك لا غرابة أن يكون ولاء إسرائيل والنظام الرسمي العربي وإيران ليس للأغلبية العربية والمسلمة، بل لقوى خارج الجغرافيا الاجتماعية والدينية والسياسية للمنطقة، على الرغم من أن إيران استطاعت خلال عقود من الزمن التغطية على حقيقة كونها أقرب لقوى الاستكبار العالمي منها لطموحات شعوب المنطقة، وما كان العداء المفتعل بين إيران والشيطان الأكبر إلا محاولة لإلهاء ‘الأغلبية المسلمة’، وصرفها عن حقيقة توجهات ‘الأقلية الطائفية’ في التغلب على أغلبية الأمة تحت غطاء قيادة الأمة لمحاربة الاستكبار العالمي، الذي بدأت إيران بمغازلته وإدخاله إلى غرف السيطرة والتحكم في برنامجها النووي.
حركة التاريخ تقول إن الأقلية الغالبة لن يكون ولاؤها لأغلبيتها المحيطة بها، بل سيكون لقوة وراء حدود أغلبيتها مكنتها من التغلب على الأغلبية، ولعل في عودة إيران اليوم إلى ملامح إيران الشاة (شرطي المنطقة)، ما يؤكد هذه القاعدة التاريخية الطبيعية، فإيران على طول تأريخها كانت جزءاً من محور معاد للأغلبية العربية والإسلامية، وهي اليوم تعود لتنسج علاقاتها على أساس من تلك ‘القاعدة التاريخية الطبيعية’ التي تضع إيران في سياقها الطبيعي (أقلية تريد أن تغلب) بمساعدة خارجية مدفوعة الثمن، وهذا الثمن يتلخص في دور إيران القديم الجديد (شرطي المنطقة) الذي سيدفع مقابل تغليبها على الأغلبية العربية والمسلمة. والقاعدة نفسها تشمل إسرائيل والنظام الرسمي العربي بشكل أو بآخر.
كنت مرة أناقش موضوع ”، مع أحد وكلاء إيران، فرد عليّ بقوله تعالى ‘كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله’. قلت له: الآية صحيحة، والقياس خاطئ، ولو صح لكانت إسرائيل – وهي الأقلية داخلة ضمن مدلولات هذه الآية الكريمة.
*القدس العربي
د.محمد جميح
تغليب الأقلية 1763