بعد قرابة عامين من الخلافات والمفاوضات، تمكن التونسيون من المصادقة على دستور ثورتهم التقدمي المكون من 149 مادة فقط بعدما نجح المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في إقراره بغالبية بلغت نسبتها 92% في حضور شخصيات عربية ودولية ووسط ترحيب شعبي ورسمي عالمي.
كما تسنى للتونسيين التوافق على اضطلاع حكومة تكنوقراط مستقلة ومحايدة ومحل قبول من جانب كافة الفرقاء السياسيين بإدارة الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية بحيث تشرف على إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية من خلال الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. الأمر الذي اعتبرته غالبية التونسيين إنجازا تاريخيا يدشن بدوره ميلاد جمهوريتهم الثانية.
وكان من شأن تلك النجاحات السياسية الملفتة أن أغرت مراقبين ومحللين كثرا حول العالم بعقد مقارنة ما بين المسارين التونسي والمصري على طريق إدارة المراحل الانتقالية توخيا لبلوغ غايات الثورتين الشعبيتين اللتين تجشمت شعوبهما معاناتها بغية إدراك التنمية وتحقيق الاستقرار وبناء نظام سياسي ديمقراطي.
وفى وسع المتابع أو المتأمل في مسارات التجربتين التونسية والمصرية أن يلمس عددا من الفوارق الجوهرية بينهما، لعل أبرزها:
دور الجيش
عديدة هي العوامل التي هيأت الأجواء لتعاظم دور الجيش وارتفاع درجة حضوره وتسييسه في الحالة المصرية عن نظيرتها التونسية إلى حد جعل منه رقما صعبا في المعادلة السياسية.
فمنذ تأسيس الدولة المصرية القديمة في عصر ما قبل التاريخ، مرورا بتأسيس الدولة الحديثة في عهد محمد علي عام 1805، ثم ثورة يوليو/تموز 1952، وصولا إلى ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وما تلاها من تفاعلات وتطورات سياسية مصيرية، ارتبط وجود الدولة وأيضا بقاء النظام السياسي، بل استقرارهما سويا، بقوة وكفاءة وتماسك الجيش المصري.
وقد اقتضت خصوصية التفاعلات الإقليمية والطبيعة المركبة والممتدة للصراع العربي الإسرائيلي أنه كلما اقتربت الدولة العربية من حدود إسرائيل وجبهة المواجهة المباشرة معها، تفاقم إسهام الجيش في صنع سياستها الخارجية وإدارة شؤونها الداخلية، التي تعد بمثابة الرحم الذي تعتمل بداخله وتنبلج منه تلك السياسة. ولما كانت مصر من أكثر الدول العربية ملاصقة لإسرائيل واصطداما بها، بحكم كونها قاعدة الارتكاز المحورية للحرب والسلام كونها أكبر تلك الدول من حيث القوة العسكرية والثقل الديمغرافي، فقد عززت تلك المعطيات مجتمعة من دور الجيش المصري في العملية السياسية.
ومن زاوية أخرى، أفسح فقر ووهن النخب السياسية المدنية وتآكل ثقة غالبية الجماهير في كفاءتها وقدرتها على إدارة شؤون البلاد، خصوصا في ظل التحديات الخارجية المنهكة والأزمات الداخلية الطاحنة، المجال أمام توسيع الدور السياسي للجيش المصري علاوة على رفع مستوى تقبل الجماهير وتوقعها لقيام قيادات الجيش بلعب دور المنقذ أو المخلص للبلاد من إخفاق النخب السياسية المدنية الحاكمة أو انحرافها عن المسار الصحيح أو خروجها على ثوابت ومرتكزات التوافق والإجماع الوطنيين.
وقد ساعد على ذلك تزامن انكماش النخب المدنية من أحزاب سياسية ومجتمع مدني مع بروز نخب سياسية موازية ذات خلفيات عسكرية لكنها محترفة ومسيسة ونجحت في تسجيل إنجازات تاريخية لبلادها، إن بحكم طبيعة الظرف التاريخي أو بجريرة التثقيف الذاتي والتعليم المدني التكميلي والانخراط في معترك السياسة.
وقد حفل التاريخ المصري القديم والحديث والمعاصر بنماذج ناصعة في هذا الصدد، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، الضابط أحمد عرابي وجماعته مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، والضباط الأحرار مطلع خمسينيات القرن الماضي، ثم المشير عبد الفتاح السيسي الذى يميل كثيرون إلى تشبيهه بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر ومن ثم يعول عليه كثيرا في العبور بالبلاد من النفق المظلم الذي يطبق عليها في أيامها هذه.
على النقيض من ذلك، ورغم دور قيادته الملموس في إنجاح الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام بن على في يناير/كانون الثاني 2011، بدا حضور الجيش في المشهد السياسي التونسي متواضعا خلال العقود القليلة المنقضية.
فإلى جانب بُعدها الجيوإستراتيجي عن إسرائيل وعدم اعتبارها دولة مواجهة مباشرة معها، عمد رئيسها المعزول بن علي طيلة سنوات حكمه إلى تقوية الأجهزة الأمنية والشرطية على حساب الجيش، الذي بدأ دوره السياسي يتراجع تدريجيا بعد رحيل الرئيس الحبيب بورقيبة ومجيء بن علي، الذى سبق له أن تولى وزارة الداخلية وأمعن في تقوية نفوذ الأجهزة الأمنية وتعزيز دورها السياسي، في الوقت الذي كان الجيش يجنح للنأي بنفسه عن معترك السياسة على نحو ما بدا جليا أثناء وبعد عملية الإطاحة بنظام بن علي.
وربما يعزز من سلامة هذا الطرح إلحاح النخب المدنية المصرية في مطالبة الجيش بالتدخل لإسقاط حكم الإخوان المسلمين بعد أن عجزت عن منافستهم وهزيمتهم عبر الآليات الديمقراطية، في الوقت الذي تضاءلت فيه إلى حد كبير مثل هذه المطالبات في الحالة التونسية، التي احتكم فرقاؤها السياسيون من الإسلاميين والعلمانيين إلى التفاوض والحوار السياسيين توخيا للتوافق على القضايا والملفات الخلافية كافة بدلا من استدعاء الجيش.
كفاءة النخب المدنية
رغم تضاؤل مساحتها وتعداد سكانها، تتميز تونس عن مصر بالارتفاع الملفت في نسبة التعليم والوعي السياسي لدى مواطنيها، فضلا عن قوة واستنارة نخبها العلمانية والليبرالية واليسارية.
وقد شهدت منذ اندلاع ثورتها في يناير/كانون الثاني 2011 وخلال الأشهر الماضية استقطابا سياسيا بين العلمانيين والإسلاميين تولدت عنه أزمات سياسية وأمنية حادة ومواجهات بين تلك النخب والأغلبية الجديدة، التي أفرزتها انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 بزعامة حركة النهضة الإسلامية، غير أن ذلك الاستقطاب لم يسفر عن منعرج عسكري أمني يمكن أن يفخخ المسيرة برمتها، وإنما ساعد الحوار البناء على تحقيق توافق شبه كامل على نص الدستور بين مختلف الفرقاء، إذ تجاوزت نسبة التصويت بالموافقة على الدستور 92%.
وعلى خلاف نظيرتها في مصر على سبيل المثال، اعتمدت القوى الليبرالية واليسارية التونسية منهج الحوار والنضال السياسي الديمقراطي بدلا من التحريض الإقصائي ضد الإسلاميين أو استدعاء الجيش للتدخل في السياسة، وبدلا من ممارسة الضغوط السياسية والدعائية والنفسية على حركة النهضة لحشرها في الزاوية والزج بها في غياهب العنف.
فكانت النتيجة أن الحركة ازدادت تمسكا بمبادئ الديمقراطية والدولة المدنية، بل أخذت على كاهلها التصدي لمساعي تيار السلفية الجهادية المتطرف للعصف بمنجزات المرحلة.
وخلال ماراثون المفاوضات والوساطات الذي دام حولين كاملين، لم يتردد الفرقاء العقائديون والسياسيون من حركة النهضة الإسلامية والعلمانيين بشتى أطيافهم والنخب التونسية الحاكمة والمعارضة والمستقلة في تقديم تنازلات سياسية متبادلة، أجبرت الانقلابيين على التوافق مع قيادة حركة النهضة وشركائها العلمانيين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى انهيار مشاريع جبهة الإنقاذ وحركة تمرد التونسيتين المتأثرتين بمسار فصائل من المعارضة المصرية قبل حركة 30 يونيو/حزيران 2013.
في المقابل، تعاني مصر ضعفا جليا في نخبتها السياسية المدنية، ليبرالية كانت أم يسارية، مقارنة بنخبتها العسكرية جراء عوامل عديدة أبرزها التجريف السياسي المزمن من قبل نظام يوليو، الأمر الذى تمخض عن هشاشة مراكز التفريخ المتمثلة في الوسائط السياسية كالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
ومن رحم ذلك الوضع الصادم، جنح قطاع واسع من المصريين حاليا إلى الرهان في الإدارة الناجزة للمرحلة الانتقالية وصولا إلى التنمية والديمقراطية على القوات المسلحة كراعية أو حارسة لمثل هذه المقاصد.
مرونة الإسلاميين
على خلاف الإخوان المسلمين في مصر، أبدت حركة النهضة التونسية مرونة، تحسد عليها، خلال مفاوضات المرحلة الانتقالية، فرغم أنها كانت صاحبة الأكثرية في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول2011 فإنها لم تتشبث بما يسمى "شرعية الصندوق" وإنما حرصت على عدم استفزاز باقي التيارات السياسية واستعدائها عبر الاستئثار بالسلطة وتكرار نموذج الأنظمة البائدة، ومن ثم مالت إلى التوافق مع القوى الأخرى ما أمكنها ذلك، خصوصا حركتي "نداء تونس" و "الجبهة الشعبية"، وشكلت حكومة ائتلافية عبارة عن ترويكا إسلامية ليبرالية يسارية تضم حركة النهضة وأكبر حزبين علمانيين جاءا من بعدها في انتخابات المجلس التأسيسي.
وعقب إقرار الدستور الجديد، أكد رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي أنه أيا كانت نتائج الانتخابات المزمعة، لن يكون بمقدور تونس تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح إلا من خلال حكومات ائتلافية توافقية.
ورغم الهجوم الشرس، الذي تعرضت له حركة النهضة من جانب فصائل إسلامية سلفية فضلا عن حزب التحرير الإسلامي وما يسمى "تيار الهوية"، بسبب تنازلات الحركة بشأن ما يعرف بـ"أسس شرعية"، حيث اتهموا قيادة النهضة بالمشاركة في صياغة دستور ليست له مرجعيات عقائدية إسلامية وشرعية، كون الدستور الحالي يتضمن بعض النقائص لجهة تجذير المرجعية الإسلامية، قبل راشد الغنوشي الاكتفاء بالفصل الأول من دستور عام 1959 الذي تبناه الدستور الجديد.
وينص الدستور الجديد بوضوح على أن "تونس دولة مستقلة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، درءا للفتنة والانقسام بين أنصار الهوية الإسلامية للدولة والداعين إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في بلد يخلط غالبية ساسته ونخبه بين الشريعة ومقاصد التشريع الإسلامي وتطبيق القضاء للحدود الشرعية.
وفى هذا السياق، يبرز الفارق بين إخوان مصر ونهضة تونس بشأن طريقة التعاطي مع باقي فصائل الإسلام السياسي وتحديدا التيار السلفي وجماعات الإسلام الجهادي التكفيري المتطرف، التي طالما زايدت عليهما في قضية الأسلمة، فبالمخالفة لنهج إخوان مصر، كانت حركة النهضة أكثر صرامة في استخدام الجيش لمحاربة واستئصال بؤر السلفية الجهادية التي تسببت ممارساتها الإرهابية واستهدافها للناشطين السياسيين العلمانيين في تشويه الإسلاميين وتكثيف الانتقادات لحركة النهضة.
وكمحصلة لما سبق، تباينت مآلات إخوان مصر ونهضة تونس، ففي الوقت الذي باتت حركة النهضة جزءا أصيلا في الحياة السياسية وطرفا رئيسيا في عملية التحول الديمقراطي واستكمال أهداف الثورة التونسية، هوت جماعة الإخوان في مصر إلى غياهب الانتحار السياسي والتنظيمي بعد أن وضعت نفسها، لأول مرة في تاريخها، في مواجهة مباشرة مع الدولة والمجتمع المصريين في آن، ومن ثم فقدت الأسانيد الأخلاقية لمظلوميتها التاريخية وحكمت على نفسها بالخروج من المشهد السياسي، ولو مرحليا على الأقل.
تأثير التدخل الخارجي
بجريرة موقعها الجغرافي الحيوي وتأثيرها المتعاظم في محيطيها الإقليمي والدولي، لم تسلم مصر وثورتها من موجات متنوعة ومتواصلة من التدخلات الخارجية المغرضة من كل نحو وصوب، فكم من الأموال إليها تضخ وكم من المؤامرات ضدها تحاك، إما بغرض إجهاض الثورة وإما بهدف حرفها عن مسارها وإما بقصد تطويعها لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
أما تونس، فمقارنة بنظيراتها من دول الثورات العربية، ربما كانت هي الأقل عرضة للتدخلات الإقليمية والدولية السافرة والمغرضة، بحكم خصوصية وضعها الجيوإستراتيجي وتواضع تأثيرها الإقليمي والدولي من حيث بعدها عن البؤر الساخنة في المنطقة كمنطقة الخليج العربي أو دول الجوار الإقليمي العربي كإيران وتركيا وإسرائيل.
وفى حين يصر محللون سياسيون تونسيون على التحذير من دور سلبي تنوي دوائر خارجية الاضطلاع به عبر تفجير خلافات وافتعال أزمات داخل الطبقة السياسية التونسية بهدف إجهاض المسار الانتقالي السلمي، لا يتورع آخرون في المقابل عن الإشادة بالدور الإيجابي الذي لعبه بعض السفراء الغربيين لإقناع قيادات مختلف الأحزاب السياسية بتقديم تنازلات بغية التوافق على الدستور، علاوة على حمل قيادات النهضة وحلفائها على الاستقالة من الحكومة ومواقع مهمة في الدولة توطئة لتشكيل ترويكا حاكمة متعددة المشارب السياسية والفكرية.
ناهيك عن الدعم الاقتصادي العاجل والضروري الذي يتطلع التونسيون إلى تلقيه من واشنطن ودول الاتحاد الأوربي والمؤسسات المانحة، التي أشادت بالتجربة الديمقراطية التونسية ووصفتها بأنها "نموذج يجب أن يحتذى في المنطقة".
الجزيرة
بشير عبد الفتاح
إخوان مصر ونهضة تونس..قصة مسيرتين 1201