منذ اليوم الأول لانطلاق العمل المسلح للحوثيين في محافظة صعدة ضد قوى الأمن والجيش اليمني قبل سنوات وهذه الجماعة تدعي المظلومية، وتتكئ على التاريخ لإبراز هذه المظلومية، مع أن العهد الملكي الإمامي الذي امتد في شمال اليمن لما يقارب ألف سنة، والذي يعد الحوثيون امتداداً له، كان من أكثر فترات التاريخ اليمني ظلماً وجهلاً وتخلفاً، بدليل أن علماء الزيدية الكبار ثاروا ضده، على الرغم من محاولات الأئمة تسييس هذا المذهب.
وعوداً إلى الحوثيين، فإني لم أصدق يوماً أن هذه الجماعة لها مظلومية، بينما كان الكثير من الحقوقيين اليمنيين يظهرونها بمظهر الضحية التي تتعرض لأعمال وحشية من قبل الجيش اليمني، مع أن الحقوقيين ذاتهم يسكتون اليوم على عمليات التهجير والقتل والتفجير الممنهج التي تقوم بها هذه الجماعة لبيوت خصومها في المناطق التي يتسنى لها السيطرة عليها، بل إن المساجد لم تسلم من تفجيرها، حيث يقوم أفراد هذه الجماعة بتفجيرها على إيقاع شعارهم، ‘الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام’.. ولا أدري ما هو الإسلام الذي يدعون له بالنصر، وهم يهدمون مساجده لا لشيء إلا لأن هذه المساجد تختلف معهم مذهبياَ.
لعب الحوثيون على وتر المظلومية، وربطوا أنفسهم بمظلومية الإمام الحسين، وجعلوا أنفسهم امتداداً له، مع أن الإمام المرجع للزيدية هو زيد بن علي، ولكن تقربهم من إيران جعلهم يضيفون بعض الإضافات اللازمة لعملية التشيع السياسي لإيران والولي الفقيه, وقد أفادت لعبة المظلومية الحوثيين كثيراً، كما أفادتهم لعبة شعار الموت لأمريكا الذي انطلى على السذج الذين لم يغب عنهم أن كل قتلى الحوثيين من اليمنيين.
وأذكر في هذا السياق محاولات الحوثيين استثارة التعاطف الشعبي بمسميات دينية، وقد قال ‘يحيى الحوثي رداً علي مرة على قناة المستقلة: ‘الجيش يقتل أولاد رسول الله’ مشيراً إلى الحرب الرابعة بين جماعته والجيش اليمني.
والغريب أن الحوثيين كلما شعروا أن حس المظلومية بدأ يخفت لدى الجمهور بفعل بشاعة جرائمهم، فإن فاعلاً مجهولاً يقوم بعمل ضد أحد أعضائهم ليغطي على جرائمهم، وليعيد الزخم لفكرة المظلومية التي يعزى لها الفضل في كثير من انتصارات هذه الجماعة.. فعندما هجر الحوثيون أبناء منطقة دماج من محافظة صعدة، لقيت عملية التهجير استنكاراً واسعاً كونها أول عملية تهجير جماعي من هذا الحجم تمارس لأسباب مذهبية، وبعدها بفترة وجيزة اغتيل الدكتور أحمد شرف الدين- رحمه الله- أحد أعضائها في الحوار الوطني، وبدأ الحوثيون موسماً جديداً للطم السياسي برفع قميص شرف الدين مجدداً لاسترداد زخم المظلومية، ولاستعطاف الشعور الشعبي. وقبل ذلك، وأثناء تسرب التعاطف الشعبي معهم بفعل جريمة حصارهم لدماج، قتل عبدالكريم جدبان أحد أعضائهم، الذي كان ضد فرض الحصار على دماج، وكأن هذه الجماعة ‘المحظوظة جداً’، يقيض لها من يقوم بعمل ضد أحد أعضائها المستنيرين حتى تعود مظلومة في عيون الناس لا ظالمة كما يشهد الواقع.
واليوم ومع تمدد الحوثيين جنوباً باتجاه العاصمة صنعاء، وبسيطرتهم على بعض معاقل قبيلة حاشد، وبتفجيرهم جبهة في أرحب على بعد أربعين كيلومتراً من العاصمة صنعاء، فإن كون عيون الحوثيين على صنعاء أصبح حقيقة لا تقبل الشك. وقد كتبت مراراً أن الحوثيين وبعد أن وضعوا يدهم على محافظة صعدة – التي يعدونها عاصمتهم الروحية، لأنها مهد انطلاق دولة الإئمة الزيديين قبل مئات السنين- فإنهم يضعون عيونهم على صنعاء التي يعدونها العاصمة السياسية للدولة الإمامية الملكية التي يعدون امتداداً لها، ويفاخرون بذلك، وليس بالضرورة بالطبع أن يعيد الحوثيون الإمامة في ثوبها التقليدي لاستحالة ذلك في يمن اليوم، إذ المهم هو الوصول إلى سلطة صنعاء بأي شكل كان.
قد لا يروق مثل هذه الطرح للبعض في اليمن، وقد يراه البعض الآخر مبالغة غير منطقية، ولكن أما كان هؤلاء ‘المنطقيون جداً’، يقولون عمن يتحدث عن أن الحوثيين وكلاء لإيران في اليمن إنه مبالغ، وها هم الحوثيون يعترفون بأنهم جزء من منظومة لا علاقة لليمن بها يتسق فيها حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني ومليشيات وأنظمة معروفة، ثم ألم يكن القول إن الحوثيين سيتمددون خارج محافظة صعدة ضرباً من المبالغة في حينه، وهاهم اليوم على بعد كيلومترات من العاصمة. تفسير واحد لما يقوم به هؤلاء الكتاب ‘المنطقيون جداً’ ومعهم جماعة الحقوقيين، وهو إما أنهم غير منطقيين، أو أنهم يعملون كغطاء إعلامي وحقوقي لهذه الجماعة التي مزقت النسيج الاجتماعي اليمني مذهبياً وقبلياً لمصالح إقليمية، ولأوهام تاريخية تعشش في رؤوس كهنتها الذين يدفعون الأطفال لمحرقة القتال، وهم مختبئون في مغارات حصينة.
ومن اللافت أنه خلال جولات الحروب العبثية الحوثية ضد القبائل اليمنية، حاولت الدولة أن تقوم بدور الوسيط لإطفاء حرائق هذه الجماعة المنفلتة من عقال الأعراف القبلية والقيم الدينية، ونأت الدولة بنفسها عن التدخل في الصراع، وذلك لإنجاح مؤتمر الحوار الوطني الذي شارك فيه الحوثيون، والذي استغلوه غطاء سياسياً لتمددهم الميداني خلال الشهور العشرة الأخيرة، وهو أمر باعث على التساؤل. هناك من يذهب إلى أن الدولة أو بعض القوى السياسية والعسكرية، تغض الطرف عن حرب الحوثيين ضد القبائل اليمنية، من أجل إنهاك الجانبين، حتى يتسنى للدولة في ما بعد فرض سيطرتها على الأوضاع، أو أن الدولة تتحاشى الدخول في صراع مع الحوثيين حتى تهيئ الأرضية لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. وأياً كانت أسباب أو مبررات بعد الدولة عن هذا الصراع، فإن آثار غياب الدولة كارثية، فمن جهة لن يضعف الصراع المسلح بين الحوثي والقبائل هذه الأطراف، بل سيزيدها قوة وتمرساً على العمل المسلح، علاوة على ما سيكون لذلك من آثار على السلم الأهلي في البلاد، ومن جهة أخرى فإن هيبة الدولة ستتعرض أكثر للانتكاس، وهذا سيزيد من تدهور الأوضاع الأمنية المتدهورة أصلاً في كثير من مناطق الجنوب والشمال.
في تصوري أن محاولة الدولة البعد عن هذه الصراعات، واكتفاءها بمجرد القيام بوساطات فاشلة في معظمها، هذا البعد لن يطول، ليس لأن الدولة تريد أن تفتح المزيد من الجبهات التي هي في غنى عنها، بل لأن جماعة الحوثيين التي دأبت على تفجير الصراعات لن تقف عند حد حتى تصطدم بالدولة نفسها. وسوف توضع الدولة والجيش بأكمله بين خيارين، إما الدفاع عن العاصمة صنعاء، أو سيطرة الحوثيين عليها. ومرة أخرى سيقول المنطقيون جداً إن هذا ضرب من الخيال، وكأن أحداث السنوات الأخيرة والشهور الأخيرة في اليمن لم تكن ضرباً من الخيال في أوقات سابقة، وهي اليوم حقيقة ماثلة للعيان.
ليس مطلوباً من الدولة أن تتدخل مع طرف ضد طرف في الحرب التي يشنها الحوثي ضد القبائل التي تدافع عن أرضها، ولكن المطلوب فرض سيطرة الدولة على الموقف، وإذا ما رفض طرف من الأطراف ذلك، فإن الدولة معنية وبالالتفاف الشعبي حولها بفرض سيادتها وتوجيه رسالة قوية لمن يرفض تلك السيادة للدولة على أرضها.
وقبل الانتهاء من هذه المقالة تجدر الإشارة إلى ثلاث نقاط مهمة: الأولى أن الحوثيين عملوا بذكاء وانتهازية في الوقت ذاته على تهريب الكثير من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة خلال فترة انشغال الناس بالثورة ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وقد تم ضبط الكثير من السفن المحملة بالسلاح قادمة من إيران في طريقها للحوثيين حسب مصادر يمنية، بل إن لجنة مراقبة العقوبات المفروضة على إيران من قبل الأمم المتحدة قد تدخلت، وأرسلت وفداً من الخبراء لمعاينة سفينة جيهان القادمة من إيران محملة بأسلحة خطيرة وكانت في طريقها للحوثيين، وما يجري اليوم من تقدم للحوثيين في جبهات صراعهم مع القبائل اليمنية هو نتيجة لانشغال الناس عن توريد هذه الأسلحة للحوثيين منذ 2011، علاوة على أن الحوثيين يستعملون اليوم أسلحة الجيش اليمني التي غنموها أثناء جولات الحروب السابقة مع نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح. والنقطة الأخرى التي ينبغي الاشارة اليها هي أن الحوثيين استغلوا بمكر وذكاء في الوقت ذاته الخلافات بمختلف أنواعها للنفاذ من خلالها لتحقيق أهدافهم. استغل الحوثيون انقسام الجيش اليمني إبان السنوات الأخيرة بين فرقة أولى مدرع وحرس جمهوري لإضعاف الجيش وشغله بمعارك بينية بعيداً عن تمددهم، كما استغل الحوثيون الانقسامات السياسية، خاصة في مؤتمر الحوار الوطني لتمرير بعض النقاط التي تخدم تمددهم الميداني، وتشغل القوى السياسية في عملية صراع عبثي وجدل عقيم، غطى حقيقة على التمدد السياسي والميداني للحوثيين على الأرض، كما أن الحوثيين لم يغفلوا الصراعات القبلية، حيث لعبوا على وتر الثارات بين القبائل، وتدخلوا لدعم طرف ضد طرف لضمان عملية التمدد الميداني، وهذا ما حدث على سبيل المثال في حاشد، حيث عمدوا إلى إذكاء ثارات قديمة بين عذر والعصيمات وهي من أفخاذ قبيلة حاشد، ووقفوا إلى جانب عذر التي خاضت الحرب نيابة عنهم وبدعمهم ضد العصيمات، وبفعل اللعب على الوتر القبلي تمكن الحوثيون من دخول حوث والخمري من معاقل حاشد الاستراتيجية، كما لعبوا على وتر انقسام حاشد بين مؤيد للرئيس السابق، ومؤيد لثورة الشباب، وهو الأمر الذي أدى إلى انقسام حاشد حول زعامة بيت الأحمر فيها. والنقطة المهمة الثالثة، هي أن بعض الإعلام المقرب من الحوثي يحاول التسويق لفكرة أن السعودية تدعم هذه الجماعة لبث اليأس في نفوس الخصوم وترهيبهم، وهذا غير صحيح، والصحيح أن السعودية انشغلت بشكل كبير عن الملف اليمني بملفي سوريا ومصر، وبالملف النووي الإيراني كذلك.
كانت العرب قديماً تضرب مثلاً بقولها ”لا بد من صنعاء وإن طال السفر"، ويبدو أن الحوثي يقترب منها، والدفاع عن صنعاء هو المعركة الحقيقية في وجه الإماميين الجدد، وكما انتصرت صنعاء في حصار السبعين يوماً ستنتصر هذه المرة، لأن الشعب خرج من قطران الإمامة وسحرها وتضليلها.
د.محمد جميح
لا بد من صنعاء 1843