ثمانية قرون عاشت فيها مجتمعات أوروبا, حروب حصدت ملايين البشر, فبدأ من القرن السابع وحتى الخامس عشر الميلادي وأوروبا غارقة في أتون صراع دامي طائفي, جذره الأصل عقيدة التثليث, فكرة صاغها كهنة المذهبية الكنسية سرعان ما تلقفتها شعوب عاطلة خاملة وهنة ممزقة, فتجد فيها مبرراً أخلاقيا للموت في سبيل إحقاق كلمة السماء..
لقرون ثمانية والإنسان يفتك بأخيه الإنسان باسم ثلاثية اخترعها العقل الإنساني "أيهما الله الأب وأيهما الله الأبن وأيهما الله روح القدس".
وفيما مجتمعات أوروبا غارقة في حمى تناحرها الطائفي يأتي قس اسمه "مارتن لوثر" كمخلص ومنقذ للمسيحية والمسيحيين في أوروبا؛ إذ كان قد اهتدى بذهنه الوقَّاد النفَّاذ لأعماق المشكلة، أعلن مذهبه "البروتستانتي" القائم على ثلاثة مبادئ (حق الانسان في الاعتقاد الحر وفي الحياة وفي المعرفة).
ومنذ ثورته الدينية الإصلاحية والمجتمعات الأوربية في وئام طائفي بين كنائسها الثلاث المعروفة (الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية), بل ومع الأديان الأخرى السماوية والوثنية إن لم نقل المعتقدات الفكرية والأيديولوجية المادية الجاحدة بالمثالية الغيبية كلياً.
لم تكن ثورة القس "مارتن" علامة فارقة لخلاص العقل الأوربي من ربقة أوهامه ومعتقداته الخاطئة تجاه مخالفيه في قراءة وتفسير "اناجيل المسيح" بل يحسب لهذه الثورة أنها حررت العقل الانساني من عبوديته للكهنة ومن طاعته العمياء لهم ولتأويلهم الذي لا يقبل الشك أو النقاش إلى فضاء أوسع ورحب كاسر لهذه الصنمية المتخشبة ومقيماً فوقها لثنائية الفصل ما بين الدين والسلطة، بين ما هو مادي, فلسفي علمي معرفي فيزيائي عقلاني وبين ما هو مثالي غيبي روحي إيماني وجداني، بين اليونان وروما باعتبارهما وجهة للعلم والمعرفة وبين فلسطين بكونها قبلة صلاة وعبادة.
المأساة- التي ينبغي معرفتها- هي أن شعوب أوروبا المتناحرة قروناً بسبب خلافها الطائفي كانت قد استفاقت ذات لحظة تاريخية على حقيقة صراعها الذي لم يكن سببه الخلاف الطائفي مثلما اعتقدت مجتمعاتها, زمناً طويلاً وإنما كان سببه الفراغ الكبير الذي رزحت لوطأته هذه المجتمعات، فحين توافر العمل اشتغلت الأيدي وانصرفت العقول إلى ما هو أهم وأنفع من الجدل العقيم في الدين ومن الصراع العنيف..
المهم- وبمضي الوقت- يكتشف الفرقاء أنهم ضحية الفراغ القاتل, فلم تكن عقيدة التثليث إلا ذريعة ومبرراً متوافر لمجتمعات عاطلة متوقفة عن الخلق والإنتاج والحركة والتفكير والعمل.
صرخة فودة
" طلقات الكلاشينكوف ليست إلا تعبيراً عن عجز الكلمات "الله يرحم د فرج فوده" الذي كان لصرخته التي أطلقها مدوية ومبكرة في وجه الارهابيين ودعاتهم وصُنَّاعهم وقبل أن يصير الإرهاب جائحة منتشرة قاتلة لمجتمعاتنا؛ فكان ثمن ذلك اغتيال روحه وبرصاصة إرهابي منحرف ضال ذهنيا وسلوكيا ونفسيا وانسانيا !!.
نعم أسكتت الطلقة قلب مفكر متقد حيوية واستنارة؛ لكنها لم تنل من فكرته الحية الملهمة لملايين العقول المستيقظة الآن وبذهول على وقع خراب ودمار ودم غزير نازف مهرق في العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا ولبنان وأفغانستان ووالخ !!.
يا أصدقائي, العبرة في النتائج فما من فكرة سديدة عقلانية ممتازة تستوجب أسفنا وندمنا حاضراً أو مستقبلاً، فكما قالت العرب قديما: ثقة العاطفة شهر، وثقة العقل دهر, فمثلما يقول ديورانت "عقلُك كالمظلَّة لا يعمل إلَّا إذا انفتح".
مؤخرا قرأت لأحد خصوم الدكتور" فوده" مطلع التسعينات كلاماً خجولاً نادماً، كأني بصاحبه وقد أزال عن قلبه وعينيه غشاوة سنين مثقلة بالانغلاق والجمود والعصبية التي عاشها الرجل في كنف ثقافة أحادية محاطة بسياج منيع من الأفكار المتزمتة الرافضة لقبول أية فكرة مغايرة لفكرتها، المقاومة بعدائية وشراسة لأية محاولة اختراق لدائرتها المغلقة على جماعة متخشبة حول تراث عتيق يستوجبه المراجعة والفهم والتأصيل النابع من حاجة الناس ومصالحها وديناميكيتها وتحدياتها.
الرجل يستذكر الآن- وبحسرة - كيف أنه كان مناهضاً لشخص لطالما وضعه وجماعته المؤمنة في مقام إبليس الغاوي للعباد؟ كان وقتها واقعاً تحت خدر فكرة الحاكمية لله ومكتشفها الشيخ "سيد قطب" فتأثير الجماعة المجزئة للعالم إلى فسطاطي مؤمن معنا أو كافر ضدنا بلا شك جعله أشبه ..... الهندي الذي لا يرى أو يسمع أو يتكلم بغير ما استوطن في ذهنه أو حفظه من مأثور متواتر لا يقبل سوى الطاعة العمياء به وبرجاله الذين تم إحاطتهم بهالة من اللاهوتية والعصمة والقداسة التي سبق لمجتمعات أوروبية وأميركية نزعها عن كهنة الكنيسة خلال القرون الوسطى".
نعم يتأسف لاغتيال مفكر بحجم الدكتور" فرج فوده" الذي لم يكن يوما إلا ايقونة للفكرة المستنيرة المبجلة للحياة والعقلانية والتعايش الانساني.. لا يعلم بفداحة الخسارة أكثر من أولئك الذين تحرروا من أغلال عبوديتهم للبشر، وأكثر من أولئك الذين ناصبوا الفكرة العقلانية ردحا، وغير أولئك الذين اهتدوا لجادة الحق المطلق بعقولهم قبل وجدانهم.
وفي بحثهم وتساؤلهم وتأملهم العميق، وفي طمأنينة نفوسهم وزهد كوامنهم، وفي إخلاصهم الإيماني المتجرد من الرياء والاضطهاد والخوف والجهل المهين للعقل والمنطق، وفي فسحة أفقهم وفضائهم السابحين فيه كطائر " الباتروس" - الذي يقضي حياته محلقا فوق مياه البحار والمحيطات - وفق تعبير "ثروة الخرباوي" في استهلاليته الجميلة لكتابه البديع "سر المعبد".
محمد علي محسن
ثورة مارتن.. 1756