نشرت جريدة "الأهرام" في التسعينيات قصيدة "من أغاني مانديلا" للشاعر فاروق جويدة، كنت وقتها من المعجبين بالشاعر، فأرسلت له رسالة عبر بريد الأهرام، أعاتبه فيها على أنه مدَّ بصره للخارج، وأهمل أبطالاً من بني وطنه.
واقترحت عليها عنوان قصيدة: "من أغاني التلمساني".
واليوم بعد وفاة "مانديلا" يتكرر المشهد، وتتعالى صيحات المديح "لمانديلا" ممن قتلوا وسجنوا في بلادهم ألف مانديلا!!!
إنها حالة نفسية تشعر بها النفوس الضعيفة، فتجدهم من باب الوجاهة والتظاهر بالبطولة يمدحون الغريب مكانًا أو البعيد زمانًا، فقد يجدون لبطولته أسبابًا موضوعية تعفيهم من المقارنة معه.
ولكن البطولة لمن يجاورونهم في الوطن، ويعاصرونهم في الزمن، تضعهم مباشرة في موضع المقارنة أمام أنفسهم وأمام الناس.
ولذلك تجد النفوس الضعيفة تغيظها المزايا التي ينفرد بها من حولهم؛ لأنها تشعرهم بالنقص والعجز.
وهذه الحالة النفسية إذا استشرت في المجتمع، تصيبه بالعطب، ويتحول لحالة هياج يصيح كما صاح قوم لوط: (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)!!
ولو عدنا إلى الشاعر الذي دار به الزمن دورته، وفعلت به العصا والجزرة فعلها.
فقد كتب متظاهرًا التباكي على "حرائر الإسكندرية" ويعتبر خروجهن للتعبير عن آرائهن وجهادهن في سبيل الحرية كان وراءه العبث بعقولهن!!
وتكاد تتخيل دموعه تبلل أوراقه وهو يقول في مقاله: "إن هذه الفتاة الصغيرة في حاجة لأن تقرأ كتابًا، أو تسمع أغنية جميلة أو تشاهد فيلمًا راقيًا.. إنها في حاجة أن تحب أم كلثوم وليلى مراد وفاتن حمامة.. إنها في حاجة أن تصلي وتزور مرسي أبو العباس ...".
يا هذا: ما هذه التُرَّهات؟!!!
لو كان مانديلا مكتفيًا من حياته بسماع الأغاني وزيارة الأضرحة، لما صار رمزًا للحرية.
يا هذا: مانديلا كان عضوًا في الجناح المسلح للمؤتمر الوطني، وأمضى عمره كله مجاهدًا بين صفوف المجاهدين من أجل فكرته.
أنتم تتغنون بأمجاد مانديلا من باب الترف وحب الظهور والتمسح في بطولة لا تملكون شجاعة تحمل تكاليفها.
وتقتلون في بلادكم أي بوادر لظهور مانديلا، وتشجعون على قتله وسجنه؛ لأن بطولته تعريكم أمام أنفسكم، وتظهر سوءاتكم أمام بني وطنكم.
وهؤلاء الفتيات الأحرار؛ أظهرن أمامكم الحقيقة عارية، ووضعنكم أمام اختبار الرجولة.
نصيحتي لهؤلاء: من لم يستطع منكم قول الحق وتحمل تكاليفه؛ فليلذ بالصمت فهو أخف الضررين.
محمود صقر
مانديلا في بلادنا!! 1423