أين ذهبت يا صديقي الجميل عبد الحكيم؟.. كيف لك الرحيل هكذا ودون وداع أصحابك المتيمين الولعين بخفتك وابتسامتك وبراءتك؟.. نعم انتظرتك كالعادة حين كنت أول الواصلين وأول المغادرين، لم أسمع صوتك أو ضحكتك المحببة إلى نفسي، جلت بنظري إلى خارج عتبات منزلي علني أعثر على دراجتك النارية وهي واقفة في مكانها المعتاد ، انتظرتك أن تأتي اليوم وان أراك في متكأك المألوف والحميم، لكنك يا فتى خذلتني وخذلت صديقك عبده مسعد الذي أعتدناه وأياك كفرقدين اثنين لا يبرحا فضاءً إلا متقابلين.
عصر السبت الماضي لم أعلم انه سيكون أخر لقاء ! أخر صلاة عصر تؤديها بجواري قبل مغادرتك إلى عملك في مشروع تنمية الموارد الذي أدمنت المواظبة فيه حتى في أيام الإجازة . آه يا صديقي الفائض محبة وأمل وحيوية ومرح ، فلكم نحن ندماؤك بائسون كدرون وجعون برحيلك المباغت والحزين.. الإنسان أياً كان فؤاده قوياً وجلداً لتحمل مصائبه ومآسيه يبقى في النهاية إنساناً عاجزاً عن حبس مشاعره ودموعه؛ فكيف بمأساة كبيرة كهذه التي أخذتك منا وأنت في ريق عمرك وعطائك ودونما سبب أو جُرم وجريرة مقترفة؟.
نعم ما أسهل وما أرخص الإنسان في هذه البلاد ! الموت هنا سلعة بائرة رخيصة لا تستوجب غير رصاصة عبثية وغير حشوة بارود وصاعق مؤقت وحزام ناسف ، القتل في هذه البلاد هو الأصل فيما الحياة استثناء وبلا قيمة أو اعتبار . عبد الحكيم ليس من الصنف الذي يستحق القتل وبتلك الصورة الهمجية الموغلة بالتوحش والبشاعة ؛ بل هو من النوع الجدير لأن يعيش بكرامة وسلام.
عبد الحكيم إنسان بسيط.. موظف بأجر تعاقدي، ورب أسرة صغيرة مكونة من طفله " أسامة " وزوجته.. شقيق محب وابن بار بوالديه.. صاحب ليس بوسعك إلا أن تصادقه ومن الوهلة الأولى التي يقابلك فيها، في اليوم الأول لمقتله سألني عن قولة كنت قد دونتها على صفحتي في " الفيس بوك " .
بالطبع هذه المقولة المأثورة عن المأمون ومفادها أن الناس ثلاثة: فواحد كالهواء لا يستغنى عنه، وثان كالدواء لا يُحتاج إليه إلَّا في بعض الأوقات، وثالث كالدَّاء لا يُحتاج إليه أبداً " اضطررت تذكيره بما دونته ولاقى استحسانه، ربما كان سيسره كثيرا لو إنني صدقته قائلا: إنك يا عبدالحكيم تماثل ذاك النبع النقي الصافي المنساب إلى رئتينا كذرات أوكسجين لا تدرك سوى عند فقدانها، أنك يا صديقي خير تجسيد لقولة كولتون:" الصداقة الحقيقية كالصحة الجيدة فقلما تُعرف قيمتها إلا بعد فقدها " .
قتلوك بدم بارد، قتلوك ظلماً وعدوانا ومضوا في سبيلهم ودونما يكلفوا انفسهم عناء إسعافك إلى مستشفى لا يبعد سوى امتار، لتكن قافلة اللواء قد طالها رصاص مجهول أو أعطبها انفجار إطار؛ فهل هذا مبرر لقتلك وبتلك الطريقة البربرية التي جعلتهم يطلقون رصاصهم على عابر سبيل ومن ثم يتركونه ينزف ويفنى في العراء ؟ أظن أن إسرائيل هذه التي نلعن جرائمها صبح ومساء لا تجرؤ بارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء المشهودة .
لكم رجوت حماة الوطن حماية أرواحنا وممتلكاتنا ومنشآتنا الحيوية وطرقاتنا لا بل وحماية جنودهم وضباطهم وسياراتهم وحتى معسكراتهم التي باتت أشبه بمعتقلات مغلقة ؟ فمع حاجتنا الملحة لقوة الدولة ولحضورها وفرض نفوذها حيال التخريب والإرهاب والتقطع وسواها لم نعثر على جيشنا الجرار المستنزف لثلثي موازنة البلد .
تصوروا قائد اللواء ضبعان حبيس معسكره ، إما وإذا قدر له مرة وغادر بوابة المعسكر فعلى عربة مصفحة ! لماذا وكيف ومتى صارت وظيفة الجيش قتل الأبرياء والعزل وترويع الآمنين؟ الإجابة بكل تأكيد ستجدونها لدى القادة الفاسدين الذين فشلوا عن حماية إمدادات النفط والكهرباء من تخريب كلفوت وكعلان وزعيط ومن على شاكلتهم من المخربين الذين لا يتورعون عن التخريب والتقطع والخطف وغيرها من الأفعال المشينة .
قتل وتقطع وحرابة وتخريب وإرهاب ، ومع هول ما يحدث ومع معرفة المواطن العادي بأسماء هؤلاء القتلة والمخربين فضل الجيش الانكفاء في ثكناته ولسان حاله يردد مقولة عبد المطلب : أنا لي ابلي وللكعبة رب يحميها.. في المحصلة لا الجيش صار جيشا يحمي شعبه ومقدراته أو إن الشعب سلم وأمن من شره وخطره وصواريخه ورصاصه وكلفة مرتباته وعتاده .
ختاما؛ ينبغي القول انه ما من جريمة دون عقاب، وإذا كان جُند القائد الهمام بهذه السوءة والهلع الذي جعلهم لا يفرقون بين مخرب عابث وبين مواطن سالك طريق؛ فذاك أمر يتحمل وزره قائد اللواء وضباطه، فلو انه أعطى شيئاً من وقته واهتمامه لتعليم وتدريب عساكره؛ لما كان عبد الحكيم مسجى في ثلاثة الموتى، ولكان الآن يعبث بهاتفه الجديد، ولكان يلهو مع أطفال الحارة، ولكان بصحبة رفاقه" رمضان وحرمل والشيخ صالح وعبد الملك وعبده"، ولكانت رصاصة الرشاش في موضعها الصحيح بدلا من يكون ضالتها خفقان قلب مترع بالحب والطيبة والتفاؤل.
لست بمقام من يودعك يا عبدالحكيم، لكنني يا صديقي أرثيك بكلمات ممزوجة بالدمع والوجع، ألم أعدكم أصدقائي وأنت واحد منهم بإقامة أربعينية ومرثية في حال رحيل أحدكم؟, قلت لك مازحا: سأكتب مرثية فيك أما وإذا رحلت قبلك فإياك أن تقيم خيمة عزاء أو تظاهرة تشييع، إنني أوفي بوعدي وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
محمد علي محسن
أين ذهبت يا صديقي الجميل؟! 2147