ثروة الإنسان هي الثروة الحقيقية والمستديمة، فثروة هذه البلاد فوق أديمها لا في باطن أرضها، للأسف هنالك اعتقاد خاطئ وراسخ في أذهان غالبية اليمنيين، هذا الاعتقاد المغلوط المعتد بثروة النفط والغاز أكثر من اهتمامه بثروة البشر كان من تجلياته الكارثية والمأسوية إغفاله وإهماله للثروة الحقيقية الكامنة في الإنسان ذاته باعتباره أصل وأساس ومحور أية تنمية وقوة ونهضة وعمران ورقي وازدهار.
قلنا مثل هذا الكلام مراراً وتكراراً وسنكرره اليوم وفي قابل الزمن؛ فما من ثروة تضاهي ثروة المجتمع المستقر, المدرك, المنتج, المتبصر, المتحد خلف غاية عظيمة ووراء قيادة ملهمة مجسدة لإرادة الإنسان الحر ومعبرة عن رغبته وقناعته وتطلعه!.
نعم.. ما قيمة الذهب الأسود أو الأصفر إذا ما كان الإنسان على هذه الشاكلة من الخمول والكسل والسقم والجهل والوهن وفقدان الأمان والأمل؟.. ما جدوى الحديث عن حقول نفط وغاز غير مكتشفة في الجوف ومأرب وشبوه وحضرموت؛ وحتى تهامة وسقطرى.. إذاً واقع الحال يرفل بسوء الإدارة وغياب الإنسان المؤهل, المستقر, المنتج, المبدع, المتحضر, المنافس, المتطلع لبلوغ المستحيل؟!.
فلو أن ما في باطن الأرض أهم مما فوق أديمها من بشر؛ لكانت نيجيريا الغنية بالنفط دولة قوية تتصدر دول القارة السمراء الفقيرة؛ ولكانت الكونغو وانجولا وساحل العاج وسواها من جمهوريات الماس والذهب والكوكا والعاج, دولاً ناهضة مستقرة, تزاحم الكبار في مضمار الاقتصاد والرفاهية، فمع ما تمتلكه هذه الدول من ثروة ذهب وماس ونفط لم تستطع مغادرة واقعها البائس, الغارق في مستنقع الفقر والجهل والمرض والعنف والموت والفوضى وووالخ من الأشياء المنهكة والمجهضة لتطور مجتمعاتها.
في جلسة مقيل جمعتني بالباحث والصديق/ عمر عبد الوهاب سعيد ـ رئيس فرع جمعية الهلال الأحمر بالضالع ـ كان نقاشنا معه حول رسالته البحثية, قد جرنا إلى مسائل أخرى فرعية تتعلق بالتنمية والإدارة، مما ذكره ولفت انتباهي هو أن محافظة تعز تعد أغنى محافظة يمنية.
كيف ولماذا تعز وليس مأرب أو شبوه أو الجوف المكتنزة لثروة النفط والغاز؟ الإجابة: لأن ثروة تعز كامنة بمخزونها البشري وبريادية أبنائها وكفاءتهم وجاهزيتهم للتعايش والاندماج المتكيف مع سياقات الدولة العصرية المستقبلية.. هذه الثروة ربما لم يتسن اكتشافها نظراً لطغيان منطق الغلبة والهيمنة للثروة الطبيعة وكذا لغياب الدولة العادلة؛ لكنها ـ بكل تأكيد ـ ثروة واعدة أهم بكثير من النفط والغاز والذهب وستثبت ذلك في الزمن القادم.
شخصياً لا أعد مثل هذا الحديث الممل والمكرر في طاقة الإنسان ذات قيمة وأهمية لمجتمع استبد فيه الجهل والإهمال ولحد جعل من المشافهة الجدلية في هكذا قضايا بمثابة ترف نظري سفسطائي قلما يجد له أُذناً صاغية وعقلاً يوعيه ويستوعبه، ففي مثل هذه الحالة المثقلة بأوجاع وأمراض مزمنة مستفحلة كـ "جائحة وباء" يصير الكلام عن المستقبل الواعد الوافر الناهض مجرد عبث مهدر على مسمع عابث كنود محتضر.
وفيما النقاش محتدماً بين فريق متفائل وآخر متشائم, تذكرت ما قرأته ذات يوم في كتاب "أعمدة الحكم السبعة" مؤلفه بالطبع "توماس ادوارد لورانس" الشهير بـ" لورانس العرب " مما ذكره في مؤلفه هو أنه, وحين اختلف أشياخ القبائل العربية المحاربة للعثمانيين في الحجاز والشام كان قد جمعهم كي يضبط تصرفاتهم الفوضوية ويرتبها وفق تنظيم عصري عقلاني تعلمه في بلده، أخرج خريطة ثم أردف قائلاً: أترون كم هي مساحة بريطانيا ضئيلة؟ فمع كونها مجرد جزر صغيرة متناثرة إلا أنها ـ وبلغة العقل ـ صارت مملكة عظمى وقوية ووجودها في كل أرجاء العالم.
نعم.. هذه هي علة مجتمعنا الفقير, البائس, الممزق, المنهك, المتسول, الجائع, المضطرب, المشرد, المنفي, الجاهل ووالخ ، فلو أن في هذه البلاد ثمة قيمة للعقل والمنطق والعلم والتخطيط والكفاءة والنزاهة والشفافية والمحاسبة والقانون والنظام وسواها من مفاهيم ومفردات العصرنة والحداثة والتطور؛ لكان الإنسان أكبر رأسمال وأهم من النفط والغاز والذهب؛ ولكانت جزيرة سقطرى كافية لخمسة وعشرين مليون يمني.
كيف لا وسنغافورة ـ المحدودة المساحة والموارد ـ تزاحم الكبار, دونما ثروة نفط أو قولوا مياه الشرب الشحيحة في الجزيرة وكلفت الحكومة توفير مياه الشرب من معالجة مياه الصرف الصحي!!.
لا أعلم متى سنلتفت إلى قدراتنا ومواردنا وثرواتنا البشرية قبل الطبيعية؟ إننا نمارس التسول المهين للكرامة والكبرياء ودونما حياء أو خجل بكوننا شعبا لديه الكثير من الموارد والطاقات الخاملة والمعطلة، لا أدري كيف صرنا منهمكين ومنشغلين بعطايا ومنح وقروض ومال يأتينا من خارج الحدود فيما لدينا ثروة لا تقدر بثمن؟ فثروة هذه البلاد الحقيقية ليس بمخزونها النفطي والمعدني الناضب وإنما بمخزونها البشري المستديم.
فهذا لاري بايج" و "سيرجي برين" مؤسسا شركة جوجل العالمية كانا ـ وإلى سبتمبر 98م ـ مجرد باحثين لرسالة دكتوراه في جامعة ستانفورد الأمريكية؛ لكنهما ـ وبعيد خمسة عشر عاما على إطلاق اختراعهما لمحرك البحث "جوجل" ـ يمتلكان الآن لأكبر شركة مهيمنة على شبكة الانترنت وبموازنة مالية ضخمة تجاوزت مئات مليارات من الدولارات أي موازنة عشرات الدول.
فمن مرآب سيارات صديقهما "سوزان وجسكي" قدر لهما تأسيس شركتهما الشهيرة "غوغل" كشركة خاصة لقليل من الأشخاص، وفي أغسطس 2004م طرحت الشركة أسهمها في اكتتاب عام جامعة رأس مال أولي بلغ 1,67مليار دولار وبهذه القيمة وصلت قيمة رأس مال الشركة الى 23مليار دولار.
فيكفي الإشارة هنا إلى أن استثمارات الشركة في طاقة الرياح فقط بلغت 164مليار دولار ومع أن الشركة آلت ملكية عامة للمساهمين فيها إلا أن ذلك لا يمنع من الحديث عن ثروة مؤسسيها البالغة سنة 2007م 18,5 مليار دولار لكل واحد منهما.
شركة مايكروسوفت شركة دوليّة تعمل في مجال تقنيات الحاسوب، يبلغ دخلها السنوي 44 مليار دولار، ويعمل بها 71,553 في 102 دولة. تطوّر وتصنِّع وترخِّص مدى واسعا من البرمجيات للأجهزة الحاسوبيّة. بالطبع بيل غيتس وبول آلان هما المؤسسين والملاك لشركة مايكروسوفت التي اصبحت شركة عامة متداولة في سوق الاسهم .
فكما تشير لغة الارقام فإن بيل غيتس مؤسس وكبير مصممي برنامج الشركة بات في صدارة اثرياء العالم إذ قيل بان شركته العملاقة تجني كل ثانية 226دولار ، وإذا ما صح هذا الرقم المهول والخرافي؛ فإن مقدار ما يملكه الخليج واليمن من احتياطي نفط وغاز لن ولن تستطع ثروة هذه الدول مجتمعة مجاراة شركة تقنية حاسوب وباتت في الحاضر من كبريات الشركات المحتكرة لثروة العقول البشرية التي أعدها أهم واخطر واعظم سلاح.
ختاما ينبغي القول بأنني لطالما اعتبرت الخوض في هكذا مسألة ليس سوى محاولة لتذكير بني قومي المنشغلين ماضيا وحاضرا بثروة النفط والغاز التي لم تكن غير نقمة عليهم وعلى وطنهم، فلو أن مقياس التطور رهن ما تكتنزه أو تنتجه الدول من نفط وغاز ؛ لكانت دول الخليج تتصدر اقتصاديات الدول الناهضة بدلا عن الصين والهند والبرازيل وتركيا ؛ ولكان برميل الخام الاسود أغلا واهم من منتجات ومعلومات ووسائط شركات الاتصالات مثل (جوجل ـ وسامسونج ـ ومايكروسوفت ـ وآبل ـ وبلاك بيري ـ وأبنتو.. والقائمة لا تنتهي.
محمد علي محسن
تعز وثروة البشر !! 2009