نزول الحاكم إلى واقع المحكوم كان أساساً من أسس الحكم الرشيد في حقبة الرشد والراشدين، لكنه اليوم حكم بلا رشد، يمارسه الحاكم عن بُعد تماماً كما تدرس بعض العلوم عن بعد، ومهما تحدث البعض عن فرضيات قانونية جامدة، فالوضع الاجتماعي أصعب من أن تستوعبه مجموعة فرضيات عقيمة تفتقد للشمولية ولا ترقى لمستوى الحلول الحاسمة، بل إن بعضها يبقى قيد التعديل، رغم تسويقه رسمياً كقانون ساري النفاذ.
في الحقيقة لا يوجد أي وجه للمقارنة بين نظام الحكم الاجتماعي اليوم ونظيره بالأمس، والسبب في ذلك أن مجتمعات الأمس الصغيرة كان لها نوع من الحكم المركزي الخاص والمتكامل، وكان ينبغي أن تتسع رقعة الاحتكام كلما أتسعت رقعة المجتمعات السكانية، لكن ما حدث هو الاستئثار الجغرافي والتاريخي لمراكز الحكم مع إطلاق العنان لمساحة المجتمعات دون وجود رقابة مباشرة على سلوكيات اجتماعية من الأفضل أن تبقى تحت سيطرة القانون.
ما ينتشر اليوم في مجتمعاتنا العربية من عنف واقتتال جاء نتيجة لضعف رقابة الحكم أو الدولة أو الحكومة، فصاحب القرار هو المسؤول بالدرجة الأولى عن أي ظاهرة تبدأ بالانتشار مفرزة أضرارها الأخلاقية بشكل واضح، قد يكون للقانون دور في ضبط سلوكيات كثيرة في مجتمعاتنا، لكن للتنشئة دوره أكبر في عدم ظهور تلك السلوكيات، وما يحدث هو أن القانون اليوم لا يحمي أسباب التنشئة الحقة كما لا يحمي أيضاً أسباب انتشار الفساد بأشكاله وألوانه المختلفة، بل إن ما هو أفظع من ذلك هو حماية القانون للمفسدين، بل وتقليد المفسدين لمهام إنسانية لا يمكن لمثل هؤلاء القيام بها كما ينبغي وكما يفترض أن يكون.
شتان بين دولة تمنع الغش في اللبن، ودولة تسوق للغش بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، دولة كانت تبيع اللبن لبناً سائغاً، وأخرى تبيع الماء بنكهة اللبن!..
لدينا عقدة نقص كبيرة جداً! فنحن نتحدث عن دول عظيمة ومتطورة ومنظمة ولا نحاول أن نبحث عن الأسباب التي يمكن أن تجعلنا كذلك, فماذا يحدث لو أن لكل محافظة من محافظات الوطن ـ مثلاً ـ جهازاً حكومياً متكاملاً؟!.. يبدو الأمر وكأنني أتحدث عن فيدرالية مفروضة كان يجب أن تبدأ منذ وقتٍ مبكر قبل اليوم حتى تبقى المجتمعات الصغيرة ضمن الدولة تحت السيطرة.
فعلاً نحن بحاجة إلى فيدرالية جديدة, تنتقي حكامها وتضع أهدافها بوضوح وتجتهد في استغلال الإمكانات البشرية والطبيعية لانعاش تلك المجتمعات الصغيرة اقتصادياً وثقافياً وأخلاقياً وعلمياً.. فرق كبير بين فيدرالية تبحث عن وطن, ووطن يبحث عن فيدرالية!
ألطاف الأهدل
بين هذا وذاك 1537