لسنا نادمين على ما أنفقناه من وقت وجهد لمناقشة ودحض أفكار العلمانية المصرية، وقد كنا نتعامل معهم على أنهم (نخبة لها رؤى وأفكار)، وصدقنا أنهم مختلفون (أيديولوجيا)، وتنادينا كثيرًا لإفساح المجال للتوافق وخلق مجتمع سياسي بمناخ تعددي، واجتهد الإسلاميون في هذا، وكانت ردود الفعل العلمانية دائمًا متصادمة ومتنافرة ولا ترضى بأي درجة من التنازل والمقاربة. الآن أتت العلمانية على ظهور الدبابات وتعيش لحظة انفراد بالحكم فانظر ماذا يصنعون؟ لا أحدثك عن إقصاء الآخر الإسلامي وتكفيره وقتله ومحاولة محوه من الوجود، لا أحدثك عن استدعاء الفتوى الدينية لسحق المنافس السياسي، ولا استخدام مشايخ الفتاوى المعلبة السلطانية التي تبرر للقتلة جرائمهم وتحفزهم على المزيد من الدماء باسم الله ورسوله وكتابه وباسم الرؤى الصالحة التي رآها لهم المفتي. لا أحدثك عن هذا.. لكن انظر إلى تصالحهم مع الماضي الفاسد وتنكرهم "لثورة يناير" كأعظم حدث في تاريخنا الحديث، وخضوعهم لحكم العسكر؛ مما يؤكد أن معارضتهم "لمبارك"، كانت بهدف أن يحلو مكان المحيطين به، وليكون لهم نصيب من جاه وثروات الحكم، أما عن المبادئ والرؤى والقيم فكل هذه كانت أسلحة مُشرعة في وجه النظام كأسلحة البلطجية في حوادث السرقة بالإكراه، لإزعاجه وتنبيهه بوجودهم. كذلك.. فمع كل يوم يتحدث فيه الشباب عن سقوط وجه وقناع، أو قلم وموقف. لكن الذي ينبغي أن نتوقف عنده الآن هو هذا النموذج المفاجئ للتضحية والصمود والإصرار على المبدأ مهما كانت التضحيات والتحديات، وذلك الموقف التاريخي الذي ميز الله به الإسلاميين، ليصنعوا ملحمة جمعت حولهم الملايين من أبناء الشعب ممن كانوا معارضين لهم أو كانوا كسالى لا يبالون بمصير الوطن فضلاً عن تحفيز وتفعيل كل المؤيدين. واﻵن.. فكل معارض في قلبه مثقال ذرة من نقاء وإنصاف سيتراجع عن ظلمه "للرئيس مرسي"، وعن تأييده لانقلاب "السيسي".
إن المخلصين من أمثال أستاذنا "هويدي" أو "الخضيري" وأمثالهما يستصعبون التضحيات لأنهم- وإن كانوا رجال حق- إلا أنهم لم يجربوا هذه التضحيات عبر تاريخهم كما عبر الدكتور الجوادي؛ لذا فرغم علمهم أن الشعوب لا تنال حريتها إلا بالتضحيات العزيزة، إلا أنهم أمام هول الموقف تحكمهم طاقاتهم النفسية، أما القلوب التي تربت على البذل والتضحية، ولم تسمع أذناها إلا تراتيل آيات الحق وقيم الصدق.. فهؤلاء فقط من سيتقدمون، وهم من سيرسم (خارطة المستقبل). على كل من احترمناه وتعلمنا منه وأثر فكره فينا أن يضع قلمه الآن، وألا يفكر كثيرًا في الخروج من المأزق، فلسنا في مأزق، ولكننا في جهاد، لسنا ففي مصيبة ولكننا على أعتاب مرحلة أراد لها الله أن تبنى بها بلادنا على حقائق ساطعات. من الآن وبعد أن فضح الانقلابية نفسه في حديثه المسرب مع "ياسر رزق"، فلا هوادة مع الانقلابين، ولا تنازل عن تطهير الجيش من القادة الفاسدين ولا عن مواجهة جهاز الداخلية الغارق في الفساد، ولن نتحسس ألفاظنا ونحن نواجه فضيحة القضاء الذي دمر سمعة الوطن بتبعيته القميئة للعسكر وعصفه بشرف الرسالة المقدسة. نعم لن نتحسس ألفاظنا.. فلقد ظهر كل شيء عاريًا، النخبة كلها تعرت، المؤسسات السيادية تعرت، المؤسسات الأهلية تعرت، ظهر الحق من الباطل، وتبين الخط الأبيض من الخيط الأسود من فجر هذه الأمة التي تعيش لحظات المخاض . الكلمة الآن للشباب، الكلمة لمن بذل الوقت والفكر بجوار الجوارح والروح، أنتم من ترسمون الطريق، أنتم من تضعون الأمل والبشريات، لا تنتظروا من عجائز المفكرين أملاً ولا بشرى، لا تنتظروا إرادة فاعلة في قضيتكم سوى إرادتكم المستلهمة من إرادة الله، لا يشغلكم تعليق المساعدات الأمريكية ولا الزيارات الأوروبية ولا المبادرات المصرية، فأنتم الذين ترسمون تحركات هؤلاء وليس العكس، وأنت من تدفعون قضيتكم إلى الأمام وليس "أوباما" أو "أشتون". الحمد لله الذي كشف كل شيء ليجعل البناء بعد ذلك متينًا، فلسنا مضطرين أن نغض الطرف عن فساد أو نطأطئ الرأس أمام توازنات، الآن يفككها الله حتى يبنيها بالمخلصين . قيننا أن الزهو (العلماني- العسكري) في الفضائيات والإعلام، ما هو إلا محاولة للظهور بوجه المنتصر، وما هي إلا الهزيمة تعشش في نفوسهم، وتملأ أفئدتهم، وتسيطر على حواراتهم الخاصة، وكلهم يتحسس المشنقة التي ستلتف حول رقبته قصاصًا لشهداء قتلوهم بدم بارد إما بسلاحهم أو قرارهم أو تحبيذهم. لا التفات للوراء ولن نتعجل زمان النصر ولن تكبلنا مساحة الزنزانة ولن توقفنا مطاردات اﻷفاعي، فالزمان والمكان قوانين الله، فلتمتلئ قلوبنا بالأمل والثقة والثبات، وما علينا إلا ان نضبط بوصلتنا على مراده سبحانه حتى نستحق النصر.
محمد كمال
دماؤنا التي ترسم خارطة المستقبل 1193