في صنف من البشر أشبه بسلطعون أرسطو الذي يستحيل تعليمه السير مستقيما ،فهذا الكائن العجيب فطرته المخلوق عليها تأبى إلا أن يكون زحفه دائرياً، فأياً كان جهدك خارقا للعادة فإنه هنا وفي حالة هؤلاء العابثين المتسلطين على رقاب قومهم بمنطق بدائي فوضوي عبثي يصير مثل هذا الجهد مجرد ترف غبي منهك مستنزف خارج سياقه المفترض .
هذه الكائنات الآدمية لا تعاني من عاهة خلقية أو من قصور وظيفي لا إرادياً بحيث يمكن هنا تبرير عجزها عن مجاراة مجتمعها الإنساني ، فمعاناة هذه الفئة كامن في ذهنها وتفكيرها المقاوم بصلف وشراسة لكل أشكال الاستقامة والتحضر الإنساني الكفيل بدمجها وضبط حركة إيقاعها ضمن سياق عمومي عصري ملتزم ومرتب وفي كنف دولة واحد ونظام واحد ومجتمع واحد يتساوى فيه الجميع دونما فروق أو تمايز أو هيمنة واستئثار.
نعم هي أقلية مقارنة بكثافة غالبة يعوزها الكثير كيما يستقم أمرها، ومع كونها قلة ضئيلة لا يتعدى مجموعها البيوت العشرة والمئة إلا أنها - وبالنظر إلى ما تملكه هذه القلة من مال وسطوة نفوذ وقوة وذخيرة بشرية – تكاد طاغية في تأثيرها ، كاثرة في قدرتها على تثوير غالبية اليمنيين وعلى إخضاعهم وتوجيههم بناء ومقتضيات مصلحتها الضيقة ، بل وأكثر من ذلك .
ففي هكذا حالة يصير مليون جائع وعاطل مطية لفاسد جشع، كما وبمقدور شخص واحد من هذا النوع تحريك مليون جاهل وغاضب ومثلهم أضعاف من المُضطهدين بقوتهم وفاقتهم فهؤلاء جميعا لا مندوحة لديهم إذا ما صاروا أداة طائعة قاصمة لظهر الدولة المدنية المنشودة .
هذه القلة باتت مستحكمة بمصائرنا ولدرجة مخيفة مفزعة مقوضه لكل فرصة ورغبة حقه في إقامة الدولة وبسط سيادتها وسلطانها ونظامها وقانونها على كافة مواطنيها وعلى كامل مساحتها، فئة لا تتخيل صيرورتها سوى بهيمنتها وغلبة منطقها الفظ الأناني الاستحواذين، لذا أصدقكم أنه لا الوحدة في خطر أو الشريعة الإسلامية زائله في هذه البلاد .
فلا الفيدرالية الثنائية أو الخماسية خطرا ممزقا للوحدة أو أن دين الإسلام سيغادر وجدان اليمنيين ولمجرد لفظة وجملة مكتوبة في الدستور أو أن تحديد سن الزواج وحصة المرأة قضيتان جوهريتان منتهكتان لدين الله الذي لم يفرق ويميز بين مؤمن ومؤمنة ، ذكر وأُنثى ؛ وإنما هذه بدعة ابتدعها البشر، فالمساواة شيء أصيل في شرائع الله المنزلة من السماء والتمييز صناعة بشرية صاغه الغلاة المتنطعين واعتبره دين كهنة الطغيان والظلام والعبودية .
الفيدرالية كيف صارت بعبعا مهددا للوحدة إذا ما كانت هذه الوحدة لم يعد لها وجود في قلوب وواقع نعيشه ؟ كيف باتت الفدرلة خطراً مستطيراً يستوجب استدعى القبيلة والدين وكذا اجتماع الشورى والنواب ومن لف لفهما ؟ إذا ما كان هؤلاء بالفعل حريصين على التوحد ؛ فلماذا لا نرى هذه الحماسة والحرص في ناحية بناء الدولة التي يبدو ومن فرط حماسة مشايخ القبيلة والدين والفيد والغنيمة إغفالهم لحقيقة أن مشكلة الوحدة ناتجة عن غياب الدولة وعن سطوة الفوضى واستبدادها القاتل لكل الممكنات والإمكانيات ؟
فبقاء الوحدة رهن رغبة ورضاء الجنوبيين ؛ فهل من العقل والحكمة فرض التوحد على أناس لا يطيقونها ؟ اعتقد أن ما نراه الآن من أفعال باسم الوحدة لن يحفظ هذه الوحدة وإنما سيقوض وينهي ما بقي من فرصة أخيرة ، الذين يستنفرون حاشد وبكيل لمعركة الوحدة كان الأحرى بهم استنفار قواهم جنوبا كي يدركوا كم هي الوحدة مفرده ثقيلة مستفزة ؟
طائفة من الناس لا تحتمل العيش في بيئة مستقرة ، لذا هي اليوم مستنهضة طاقتها في سبيل الفوضى التي إعتادتها زمنا طويلا ، من يظن أن للمسألة صلة بالوحدة أو الدين أو الفدرلة فأظنه قد واقع تحت وطأة التضليل الممارس بمنهجية وسطوة قلما نراه في مسألة إقامة الدولة باعتبارها أصل المشكلة وعقدتها وحلها .
نعم الفدرلة سيكون مآلها التجزئة في حال بقت النية مخاتلة ومضللة على هذا المنحى المستخف المستفز لمعظم الجنوبيين الذين ربما مثلت الفدرلة للكثير منهم حلا واقعيا وممكنا لمشكلتهم المستفحلة مذ قرابة ربع قرن ؛ لكنهم أبدا لن يقبلوا بالفدرلة - أيا كان شكلها ونوعها - ما لم تتوارى قوى الفوضى والخراب والنهب وما لم يكن هذا الحوار الوطني مؤداه دولة اتحادية قوية ومستقرة وقبل هذا غير محتكرة بعائلة أو قبيلة أو منطقة أو جهة .
محمد علي محسن
طائفة لا تعيش إلا في الفوضى !! 1598