مؤتمر الحوار على وشك وصوله لمحطة النهاية، فبعد أشهر من التشخيص والتسبيب للمشكلات والقضايا الوطنية؛ ها هي المسافة الزمنية الفاصلة عن يوم 18سبتمبر لا تتعدى الأسبوع الواحد.. لذا يمكن القول بأن المحك العملي ليس بما خلصت إليه فرق الحوار من أسباب وتوصيات ومقررات تم تلاوتها ورفعها لرئاسة المؤتمر؛ وإنما المحك الحقيقي بما ستقرره الفرقتان المهمتان والشائكتان, وأيضاً الغامضتان, من حلول ومعالجات تتعلق بدرجة أساسية بوضع الجنوب في معادلة المستقبل، فتأخر الحسم لهذه المسألة بدوره أخر البت في مسألة شكل الدولة اليمنية القادمة.
نعم, فبقدر تفاؤلنا بكون قوى الحداثة حضورها طاغٍ ومدهش وعلى كافة مجريات وقضايا ورؤى مؤتمر الحوار؛ بذات القدر نشعر بالقلق والارتياب من هيمنة ونفوذ القوى التقليدية المتغلغلة في أعماق كل مشكلة ومكون، كما أن تأثيرها في تنفيذ مخرجات الحوار سيكون وقعه كبيراً وناسفاً لهذه المخرجات في حال بقيت الدولة غائبة وفاقدة السيطرة والقوة والدعم الذي يمكنها من فرض مقررات الحوار الوطني.
فالحاصل هو أن قوى الحداثة ليس لديها سوى أفكارها ورؤاها وأحلامها، وهذه وحدها لا تكفي لإقرار مصير وطن وشعب، فقليل ونادر هم الأشخاص الذين لديهم الأفكار إلى جانب قدراتهم الأخرى القادرة على اختراق واقع سياسي ومجتمعي كهذا الذي يستلزمه جهد ووقت كيما تصير الأفكار والتشريعات الجيدة دستوراً ونظاماً وقيماً وسلوكاً وثقافة ممارسة في الواقع الحياتي..
قوى الحداثة كان حضورها في فرق الحوار لافتاً وطاغياً، ومع كثافة الأفكار الحداثية المنحازة للدولة الديمقراطية العادلة؛ بدت هذه القوى مفككة الأوصال، مشتتة الذهن، متقلبة التفكير، هذا التفكك والشتات مرده ولاء هذه القوى لمكوناتها الحزبية والجهوية والطائفية والسلالية والمذهبية والاثنية والنفعية والشخصية والعفوية.
أعتقد أن قوى الحداثة ينبغي أن لا تظل أسيرة لهيمنة القوى القديمة، فسواء كانت هذه القوى التقليدية ممثلة بالأحزاب السياسية وقياداتها العتيقة، أو كانت شخصيات تجارية وعسكرية وقبلية ودينية وجهوية، ففي كل الأحوال هناك ثمة مسافة فاصلة وسحيقة؛ فإما أن تنتصر قوى الحداثة لفكرة الدولة الديمقراطية العصرية، وإما أن تعيد إنتاج دولة القبيلة والطائفة والجهة.
الأيام والأسابيع القابلة ستكون حاسمة لمجمل العملية السياسية، ولأنها بهذا القدر من الأهمية فعلى هذه القوى الحداثية حسم خيارها وذلك بالانحياز للدولة الاتحادية الديمقراطية, باعتبارها الجامع المشترك لكل قوى الحداثة المستظلة الآن بمظلة الأحزاب والحراك وأنصار الله، فما لم يتوحد هذا الشتات المقلق، وما لم تتخلَ عن ولائها الضيق؛ فإنها ستجد ذاتها في نهاية المطاف تعيد إنتاج القوى القديمة بكل رموزها وأشكالها وشخوصها وفعلها.
الانتقال مكلف وشاق ومنهك، وهذه البلاد وأهلها على مشارف انتقال سياسي غير مسبوق في التاريخ.. طبعاً المسألة شائكة ومعقدة ويعوزها إرادة سياسية لا تلين أو تهن، فمهما كان حجم الابتزاز والعراقيل والأفعال الموضوعة في طريق الانتقال باليمن واليمنيين ينبغي لمؤتمر الحوار ألّا يتوقف أو يتعثر، فمثل هذا النكوص لا يعني غير ولوج اليمنيين في أتون من حالة الوهن والتفكك والتناحر والإقصاء والاستئثار إلى حالة يسود فيها العدل والتعايش والشراكة والاستقرار.
نعم, ما تم إنجازه في مؤتمر الحوار يعد جيداً بمعيار الظرفية الملغومة بأزمات واستحقاقات سياسية وتاريخية، لكن ما تحقق خلال الأشهر الستة بات الآن في محك التطبيق الحقيقي والصادق، ربما أفلح جمال بن عمر في استعادة زمام عجلة الحوار ، وربما وبمساعدة الدول الراعية لمبادرة الخليج يمكنه ضبط إيقاع الأصوات الصاخبة المغردة خارج سياق الدولة الاتحادية المنشودة، لكنه وفي كل الأحوال يستلزمه قوة خارقة كيما يتوافق الفرقاء على صياغة واحدة مرضية لكل الأطراف المتحاورة.
أعتقد أنه وما لم يتنازل الجميع من أجل الدولة المستقبلية؛ فلن تجدي نفعا كل محاولات المبعوث الأممي، وما لم يتفق الفرقاء على مغادرة حالة اللا توحد واللا تجزئة؛ فإنه يستحيل الانتقال إلى الدولة الديمقراطية التي يجب أن تكون صورة مختلفة ومغايرة للدولة الشطرية أو الموحدة..
فما لم يتم حسم الخلاف القديم الجديد لشكل الدولة؛ فإنه يصير الكلام عن حل القضية الجنوبية مجرد محاولة عبثية مخاتلة، وما لم يقدم ممثل شعب الجنوب في مؤتمر الحوار على مغادرة مربع الاستقلال وتقرير المصير، وما لم تكن الأطراف المتشبثة بتوحد سياسي مشوه ومفقود قابلة ومتهيئة لحل ثالث تخشاه وتراه خطراً ومقوضاً لتوحد لم يعد له وجود في وجدان وعقول غالبية الجنوبيين ؛ فإنه وفي الحالتين سيكون إخفاقهم ناسفاً للحوار وللعملية السياسية ولجهود المبعوث الدولي وسفراء الدول الراعية؛ وحتى التوحد وشكل دولته المختلف حول صيغتها الآن..
فإخفاق المتحاورين لن يكون نهاية مخيبة لآمال اليمنيين ولرئاسة البلاد وحكومة الوفاق مثلما يظن البعض؛ وإنما سيكون بداية لمشكلات وأزمات لا قدرة لليمنيين عامة على تحمل تبعاتها ونتائجها المكلفة والباهظة، فإذا ما ظل فرقاء اللحظة الأخيرة عند مواقفهم وتصوراتهم المتصلبة في الماضي وفي حسابات سياسية ضيقة؛ فإنهم بفعلهم هذا لن يحفظوا وحدة أو يحققوا تجزئة؛ بل يمهدون لفوضى عارمة لن تبقي أو تذر.
وعلى هذا الأساس أعتقد أن الصائب يكمن بالنظر إلى المستقبل وأجياله وماهية الحل القابل للحياة والاستدامة؛ أما محاكاة الماضي, والإفراط في استذكار تواريخه وإخفاقه, فأظنه لن تفضي لسوى الاضطراب والمجهول.
محمد علي محسن
فرقاء لحظة الحسم!! 1666