منذ صدر الإسلام والمسجد هو مدرسة المسلم الأولى التي أخرجت الدعاة والفاتحين والمفوهين والأبطال الأشاوس وأصحاب المناهج المعتدلة والتيارات المتوسطة، فعلى مقاعده المبسوطة دون قبابه ومآذنه يتلقى هؤلاء أسس الدين القيم وقواعد الحياة المتوازنة، وإذا افترضنا أن قوام الحياة الاجتماعية فكرياً يُبنى على ثلاثة منابر متوازية؛ منبر الدين، منبر السياسة، والمنبر الثقافي، فإن ميزان العدالة الاجتماعية لابد أن يقوم على أساس التوافق والتواؤم والشفافية الكاملة على اعتبار أن لهذا المجتمع ثلاثة عوالم فكرية وحسية وواقعية يجب أن تتغذى من منابعها الأصيلة والنقية من ثوائب المغالاة والتدليس.
ومن المعروف أن منبر السياسة قد حمل من التشويش والتشوية والمكاشفة البغيضة ما حمل، لهذا أسقطت الأقنعة وتعرت النوايا وأصبحت سوءة الخيانة واضحة لا تواريها أطمار الخطابات البالية والمرقعة بألوان التضليل والمغالطة.
ولم يسلم المنبر الثقافي من ذلك الزيف المؤطر بالمواربة المدروسة والكذب المنمق والفجور الذي يتجاوز حيز المحاكاة والتمثيل على لسان الإعلام المتخاذل عن لعب دوره وأداء واجبه، فالإعلام بأركانه الثلاثة المقروءة، المرئية والمسموعة مدرسة الجيل التي ما فتئت تضخ في عروق الجسد المجتمعي ثقافات مناوئة لثقافته الفطرية الرصينة حتى غدا عائماً على جنبيه فوق موجة تغيير كاذبة، ولعلها انتزعت منه أجمل ما فيه قبل أن تنجح في تغيير أقبح ما فيه، ولا يخفى على أحد ما تخفيه تلك القشور الإعلامية من أخلاقيات ورؤى وأفكار متطفلة على حياة المجتمع ولعلها نجحت في دبلجة توجهه نحو المزيد من السطحية واللاشيئية.
وإذاً فنحن نكادُ نعترف بالخطر المحدق بهذه الإنسانية المنبسطة على مساحة جغرافية محدودة بأسلاك شائكة ومحكومة بمنظومة تتبع ومبادئ ومثل مفصلة وفق مقاسات متفاوتة أظهرت البعض مهلهلاً وأبقت البعض الآخر عارياً وفشلت في أن تبعد جلباباً يستر أكثر مما يفضح! وإذاً فلا مفر من التسليم بوجود بؤرة وصديدية يحاول جسدنا الاجتماعي التعايش معها رغم هبات الحمى التي تبعثها في أوصاله ليل نهار، فهو جسد مريض بالرضوخ والغفلة، لكنه يستأنس بقصص التاريخ التي يرويها على مسامعه الليل قبل أن ينام كل مساء على رصيف الحاجة إلى التأصيل من جديد وإذاً فإن المنبر الديني هو ما تبقى من بين ثلاثية خطابية نفهم معانيها ونعجز عن تطبيقها على أرض الواقع المشحون بالتناقض، إن ذلك المنبر الذي يقف شامخاً باستناده إلى أساس عقائدي لا يقبل الجدل هو المنبر الذي يمكن من خلاله العودة إلى تحكيم العقل واستدعاء الحكمة وتفعيلها بشكلٍ منطقي بعيد عن انشقاق الرأي والتوجه، ولأن الخطاب على هذا المنبر من حق تلك النخبة الداعية والداعمة لتحكيم الكتاب والسنة، أو من نسميهم بخطباء المساجد، لأن هذا الخطاب بيد هؤلاء الأئمة والدعاة يصبح واجباً أن يكون هذا الخطاب محاكياً للواقع ومخاطباً عقلية الجمهور بلغة الحدث الذي فرضته الأقدار أو حتى صنعته أيدي الناس إثر غياب الوازع وانعدام الضمير.
خطباء المساجد هم المرشدون الذين تحمل إيمانهم مشاعل الهداية والاسترشاد، فمنهم العالم الذي غاص في بحر الحقيقة حتى قويت حجته واشتد عود لهجته، ومنهم الداعية الذي يعظ ويعزز الخطاب الديني بسيرة المصطفى المعطرة بمكارم الأخلاق، ومنهم الموجه إلى سبيل الرشاد عبر إسقاط ثقافات أخرى حاولت أن تسبق الزمن وتصل قبل موعدٍ لا يحين إلا أن يشاء الله، ومع أن سعيها كان حثياً إلا أنها بقيت تلهث خلف سراب.
هؤلاء هم من يقول عليهم مجتمع اليوم الذي أصبح متعطشاً إلى وجود منبر نظيف لا يقول سوى الحقيقة ولا يدعو إلا إلى الحق. وحين تسنح الفرصة لمثل هؤلاء بالتعرف عن قرب على قضايا مجتمعية هامة وطارئة وحاضرة بقوة على مائدة الواقع الاجتماعي فإنها ستملك الأدوات المناسبة والآلية الملائمة لصياغة تلك القضية وتطعيمها بالدليل القرآني والهدي المحمدي ومن ثم تقديمها إلى جمهور مبادئ السلم والتعايش والعدل والمؤاخاة الاجتماعية والإنسانية، والحقيقة أن استشعار (المؤسسة التنموية للشباب) مثل هذه المسؤولية جعلتها تقوم بدورتها التدريبية الأخيرة التي استمرت لمدة أربعة أيام والتي كان هدفها تدريب أئمة المساجد وفتح مداركهم على قضايا المجتمع المعاصرة ووضعها على رأس القائمة التوعوية المناط بهم تقديمها خلال الفترة القادمة، ولعل عملاً مسؤولاً كهذا يدفعنا لرفع القبعات أمام من يرى الوطن من كل زاوية ويتحدث إلى من فيه بأكثر من لغة مستخدماً كل أدواته المتاحة وأساليبه الممكنة للوصول إلى الفكرة الجمعية التي يلتقي أمامها كل أبناء المجتمع.
إنه المسجد، المدرسة الأولى للإسلام، وخطباء المساجد معلمون من طراز فريد، لأن طرائقهم حرة ومناهجهم مفتوحة وأهدافهم ثاقبة ومادتهم واقع الحياة الصعب، لذا نقول إننا نعول على هؤلاء في نشر الفضيلة وإعادة الاعتبار لبنية الإنسان المسلم وقراءة الواقع بتجرد وحيادية وإنصاف، مع إدراك خطر الانقسام والتشرذم بين هؤلاء بعد أن تشرذم الساسة وحماة الوطن. وإذا تأملنا حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن) صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، لوجدنا صدق دعوتنا إلى ضرورة استمرار خطباء المساجد بالسعي الحثيث لانتشال المجتمع من كبوته اللا مسبوقة، فسُلطانهم في الاعتبار، وإلى ذلك فهم يملكون أيضاً سُلطة الكلمة لأنها الكلمة التي لا تخرج عن نطاق القرآن ولا تتعدى حدود السُنة المطهرة، فهنيئاً لهؤلاء منبرهم الطاهر ولمثل هذا فليعمل العاملون.
تعز مسئوليتي.
ألطاف الأهدل
خطباء المساجد.. سُفراء الفضيلة 1637