مثل قناديل مطفأة غدت شموع المدينة الحديدية بعد أن عصفت بها رياح العنف وباتت أرصفتها حلباتٍ للإقتتال بين أبرياء من الموت ومتهمين بالحياة!, هكذا تغدو المجتمعات البشرية مستأسدةً حين يحكمها قانون الغاب ويعتقد كل إنسان فيها أن عليه أن يزأر ليعيش!
وحين تصبح أقلام البعض أكبر حجماً حتى تحمل على الأكتاف, وذخيرتهم اللفظية لا تختزلها علبة الحبر التي تزود أقلامنا بذخيرتها, حينها يكون من الصعب أن نتحدث عن سلم اجتماعي شامل في ظل إنكار الآخر والتربص بحياته حتى لو لم يكن لحياته معنى لدى هؤلاء.
إن كل الحضارات الغابرة التي بقيت أطلالها شاهدة على وجودها حتى اليوم هي حضارات ما كان لها أن تبقى لو لم تنشأ في ظل سلم اجتماعي يستطيع كل فردً في المجتمع عبره أن يبني قلعة أفكاره على أرض الواقع مهما كانت المعوقات إليها قائمة, إذ مما لاشك فيه أن الإنسان لابد وأن يبقى في حدود معقولة من معوقات تفرضها عليه طبيعة الحياة والنظام السائد ومنظومة العادات والتقاليد المحلية بالإضافة إلى معوقات أخرى أشد فتكاً بإبداعه وقدرته على الظهور والبقاء وهي معوقات ذاتية لا يتسع المقام لذكرها الآن.
والشاهد في الأمر أن للاستقرار الأمني في أي مجتمع أهمية إنسانية فضلى, فلا بناء يقوم في ظل الخوف, ولا ازدهار يتم في وجود الجوع, ولا إبداع يتألق في أحضان الكبت والصمت والحرمان, إنها فطرة الكون وصيغة الحياة وناموس البقاء والديمومة.
هذا السلاح الذي أصبح فلسفة سائدة وثقافة متداولة في وطننا الحبيب يكاد يوقف عجلة الحياة كما أوقف عجلة الحضارة من قبل ومنذ أن أصبح في الوطن قطع سلاح تفوق عدد البشر, وهذا يدل على إرتفاع صوت العنف على نبرة الحق والعقل, وبالرغم من أن للحق مسار لا يخطئه وللعقل مقام لا تتجاوزه أي نوبة جنون, إلا أن العنف والفوضى لابد وأن يثرا مكامن الفزع والإستكانة والحيطة والحذر.. بل إن حمل السلاح وما يتسبب به من إثارة للفتن قد يُغلُ يد العون الممتدة إلى الوطن من مخلصين له في الداخل أو مهتمين لأمره من الخارج, وقد ينتصب كحائطٍ فولاذي أمام أفواجٍ بشريةٍ هوجاء لم تفقد أبصارها لكنها فقدت بصائرها!.
إنه السلاح صوت الشر وصورة الموت, أداة الجبناء الذين لا يؤمنون بالحوار كوسيلة تواصل واتصال بالآخر أياً كان توجهه ومهما كانت شرعته.
إن الثوابت الوطنية الراسخة التي لا يمكن أن تشرخها مطرقة العنف والتطرف والتخريب هي اللبنة الأولى التي تضعها الشعوب المتحضرة في بناء المجتمعات الحية والنابضة بالحياة, تلك الشعوب التي تبدع في تأطر قضاياها بالقانون روحاً ونصاً بينما يبقى القانون لدى شعوب أخرى مجرد جمل فضفاضة تتسع لكل هفوة وتتمدد أمام كل كبوة.
الأمن الاجتماعي يسبق الحاجة إلى الأمن الغذائي لأن كل مؤسسات المجتمع تصبح مشلولة تماماً في ظل الفوضى الأمنية التي تمهد لإيجاد بيئة خصبة للإنفلات الأخلاقي والجريمة المنظمة وكل أنماط السلوك السلبي الذي يترعرع في غياب الرقابة ويتربى في غربة القانون. ففي أجواء الخوف والفزع تثمر الرذيلة وتتدلى أغصانها بالخطايا بينما تحبس الفضيلة أنفاسها وتتوارى في زاوية الصمت الطويل, لكن في مشهد سيادة القانون ووجود العدالة الإنسانية والمساواة بين أبناء الشعب يمكن أن يتحول رغيف الخبز الساخن إلى واقع معاش بدلاً من أن يبقى حلماً معلقاً على اكتاف الكبار لا يناله إلا من يجيد القفز على الحواجز.
العنف عدو الفن والجمال والرقي والحضارة, ولا شيء مثل العنف بكل أشكاله المسلحة وغير المسلحة يمكن أن ينسف بنية الإنسان ويحول بينه وبين الحكمة والعقلانية وقبول الآخر, وليست المشكلة فقط فيمن يحمل السلاح اليوم كعنوان حي لعقليته المتحجرة ولكن المشكلة حين يصبح هذا المسلح أو ذاك مصدر إلهام لسواه من ضعفاء النفوس فتصبح ظاهرة التسلح وباءً ينتشر بين الناس ليفتك بما تبقى من قيم ومبادئ ومثل إنسانية دون أن يجد اللقاح المناسب للحد من إنتشاره أكثر على حساب أبرياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.
إن تلك البنية القبلية المزدوجة التي يتكون منها هرمنا الاجتماعي جعلت من العنف المسلح أداة لحماية مصالحها حتى تحول العنف الفكر إلى عنف سلوكي مدعوم بسلطة قبلية حيناً وسلطة سياسية أحايين كثيرة بينما تبقى السلطة الاجتماعية والأخلاقية والدينية مفردات جامدة في قاموس التاريخ الإنتقائي الذي ربما أعترف بدور كل من تلك السلطات في مواسم معينة وتغاضى عن وجودها في مواسم أخرى على اعتبار أن للسياسة مواسم بذر وحصاد تماماً كما للنبات.
في غضون فترة زمنية قصيرة ولأسباب لا تخفى على أحد ارتفع معدل العنف وتضاعفت جرائم القتل العمد والخطأ أيضاً بسبب فلسفة التسلح وإبقاء الذاكرة الإنتقامية في وضع نشط مما يستنزف طاقة المجتمع ويبقيه متمحوراً حول ردة الفعل المناسبة لكل فعل مسبوق باللا مسؤولية ومدموغ باللامبالاة, وليست حالة العنف والتسلح السائدة حالة وليدة لأنها نتاج لنزاعٍ خفي وعميق وبعيد الأثر منذ أجيال مضت وحتى جاء هذا الجيل الذي ينادي بالحوار ويؤمن بالسلم الاجتماعي كمفتاح لتلك الأبواب المغلقة التي تخفي خلفها حياة بلون الأمل ونكهة العمل ومذاق الإيثار والتضحية, إن إقصاء العنف وتهميش النزاع ثقافة جديدة يجب أن تحل محل ثقافة بالية أقصت أبناء الجلدة الواحدة وهمشت فكراً محلياً عبقرياً كان لابد أن يجد له مكاناً في منظومة العقل الجمعي الذي يحمله جسد المجتمع, المجتمع الذي ينبغي أن يكون شريكاً في صناعة السلم المجتمعي.
ألطاف الأهدل
ضد العنف ضد النزاع 1528