للحياة أمواج متلاطمة كأمواج البحر التي تتصارع في الهواء ثم تتلاش هاربة، والحياة لا تختلف كثيراً عن ذلك البحر العميق الذي يحوي غرائب الكون وعجائبه ويعجز أن يحتوي جيف البشر والأسماك والحيوان، وربما كان الفرق بين هذا وذاك بسيط جداً، فالحياة تدفن أمواتها في أحشاء الأرض، بينما يدفن البحر أموات على سطح الأرض، ودائماً بقدر ما تقترب أسباب الحياة تقترب أسباب الموت وحيثما تكون الحياة يكون الموت، فقد خلق الإثنان يكونا متلازمين كسبب ونتيجة، بداية ونهاية، كلاهما يبدأ بالآخر وينتهي به، فلا يلبث أن يحيي فلان حتى يموت، ولا يلبث أن يموت فلان حتى يحيي سواه آلاف آخرين، ناهيك عن حياة أخرى دائمة بسعادة أو شقاء دائمين. ومن جهل الإنسان وقلة تقواه تمسكه بما ليس له وسعيه للحصول على ما لا يمكن أن يملك، فحين نتأمل هذه الوفود الذاهبة والآيبة كل يوم إلى مختلف ميادين الحياة تغمرنا أحاسيس الدهشة من عظمة الخالق الذي يمنع كلاً منهم مبتغاه ويعطي كل فرد فيهم ما يتمناه.
وهو إنما يؤجل أو يعجل الخير لحكمة يقصدها لا تتنافى مع قدرته التي تدنو دونها القدرات ولا تتعارض مع رحمته التي وسعت كل الرحمات، مع هذا تضعف عقيدة الناس وتهتز ثقتهم ويضعف عندهم حس الظن بمن في يده الأمر كله، لذا تنشأ الصراعات وتقوم الفتن، فالكل يظن أن شيئاً ما من حقه فقط ولا حق للأخرين فيه، متجاهلاً أن ما قسمه الله فقط من خير أو ما كتبه عليه من ألم هو نصيبه الوافي، وما عدى ذلك فهو من حق آخرين سواه. فماذا ترك الذين كانوا يملكون الأموال الطائلة وماذا أخذ هؤلاء في حوزتهم عند الموت؟! لا شيء سوى أنهم كانوا أسباباً لنعمة مؤقته.
للنفس صولات وجولات ومآرب، وإن لم يكن لدينا المنهج الذي نربيها عبره على القناعة والأدب والطاعة أصبحت مثل نار لا تشبع مما يسقط في جوفها، بل أنها تزداد شراهة كلما امتلكت شيئاً من متاع هذه الدنيا الفانية. وليت القناعة درساً صعباً. بل هو من اسهل الدروس التي يمكن أن نربي عليها انفسنا, فما هو لي أصبح ملكي وما هو للناس ليس من حقي, غير أن التقوى والإحسان منبعان للنقاعة, فلا يطمع تقي فيها ليس له ولا يعتدي محسن على ملك غيره.. ولو أننا تأملنا حقيقة التوكل لوجدنا أن الله تعالى أمرننا بالعبادة وطي رحلة الحياة على خاتمة الصلاح مع حسن ظن به يزن جبال الكون بطولها وعرضها, ومن بعد ذلك أخذ بالأسباب في أبسط صورها وأصحَّها وأصدقها.. بعدها تبرز نتيجة التوكل في عطاء الكريم وبر الحليم الذي لا تخفى عنه خافية.
لقد اسرف البشر منذ بدء الخليقة في تجاوز الأسباب لغاية الوصول إلى النتائج, وقد وصل الكثير منهم إلى النتائج التي كانوا يرجونها، لكن بعد سقوط النوايا وموت الصفات واختصار المزايا التي لا يحملها أو يتصف بها إلا المتوكلون على الملاذ والملجأ, صاحب الحمية والمخبأ الركن الشديد الذي يفعل ما يريد.. فرق كبير بين أن تعيش متكلاً أو متوكلاً وكأنك تنشد الفرق بين من يعلم ومن لا يعلم, وأسوأ ما يمكن أن تقدمه لك نفسك أن تعدك بالاتكال عليها, وهل يتكئ مخلوق فاقد القدرة على آخر فاقد للحيلة والوسيلة؟!.
ألطاف الأهدل
توكّل أم اتكال؟! 1585