قليل منه يمكن أن يحدث اختلافاً كبيراً وأثراً عميقاً تماماً كما فعل العطر، فكما ترشف شفاه الأثير من حولنا رشة العطر السابحة إلى جذوع أعناقنا تلتهم أذواقنا أبيات العشر كحبات بلح تذوب لذة في أفواه جائعة لطعم السكر، حتى نشعر أحياناً أننا نثمل برشفة كلمات ساحرة تخرجنا من ظلمة الوحدة والفراغ واليأس إلى نور الأمل والتفاؤل والمرح ورؤية الحياة من زاوية إبداعية مختلفة توقظ ذلك المارد الجميل النائم في دهاليز أرواحنا.
الشعر حبر المفردات الساقطة من سحاب الحب والجنون والقنوط والكبرياء، خلاصة العدم التي أخرجت حياً من ميت وميتاً من حي، قطرة النار التي أحرقت جذور المشاعر وأخمدت لهيبها بدواءٍ لم يكن إلا داء.. كلمات مغمسة بالشجن ومرشوشة بسكر ألوله وملفوفة بكراميل الوصل المستحيل!..
عطر الحياة، لأنه يبرع في إثارة مشاعرنا كما يبرع العطر في ذلك أيضاً، فحيناً يحطمنا لوعة وحيناً يذيبنا شغفاً وحيناً يصرعنا ألماً وحيناً آخر يشعلنا بعد انطفاء دام ولم يدم..
عطر، لأنه يستحق أن نحفظه في زجاج النسج الأدبي منثوراً ومقفى بأكثر من نكهة وأكثر من محتوى.. وعطر لأنه سرعان ما تحمله سحائب المتعة إلى أذن السامع حتى يعجز عن التقاط مفردة أو استيعاب جملة، تماماً كما نعجز عن جمع ذلك الرذاذ الفاتن وإنما تستنشقه أرواحنا وكأنه غذاؤها ومدامها وبعض ما يجعلها راحلة تحمل زاد أجسادنا دون عناء وكأننا روح بداخلها جسد!..
من بيت شعري واحد قد ننسج صرحاً من الكرامة ومن آخر قد نهدم قلعة من الكبرياء ومن ثالث قد نزيل أطناناً من الصمت حتى تضحي الحياة في أعيننا موجة سكنت جناح فراشة!..
ما أجمل كلمات يتسربن إلى قلوبنا كجنيات الليل اللاتي نسمع عن عجائبهن ولا نستطيع أن نلمسهن، كلمات يسرين هنيئاً مريئاً إلى أجسادٍ أنهكها الضمأ إلى الجمال والروعة والإحساس والدلال، كلمات يداعبن أنف الفضول ويطرحن على شفاه المتعة رحيق مفردة هائمة لا أرض لها ولا سماء ولا وطن.
للشعر نكهة خاصة ومذاق مميز وملعقة لا تغترف إلا خلاصة أحاسيس معتقة تختمر في صدر قائلها عاماً بعد عام حتى تصبح لعقة الشهد منها دواء.. الشعر منصة التائهين عن الصواب، طريق الباحثين عن دُنيا يباب، ومملكة من الدخان والأثير والضباب.. مواقف لم يفهمها أصحابها كما يفهمها الآخرون ولم يروها كما يراها سواهم، لأن كل شيء في الحياة، لديهم رموز، مجرد رموز، فالوردة مثلاً ليست أوراقاً تجتمع على تختٍ ورقي ولها لون جميل ورائحة زكية، إنما هي ساعات شفقٍ نائمة في أحضانِ أفق أو لحظات أصيل أجتمعن في عرش غروب فاتن.. هي شهقة روحٍ تائبة أو دمعة ندمٍ لاهبة.