قبل فترة ليست بطويلة كان مرور تعز يتساءل عبر فعالية مروية عابرة: إلى متى؟, ولم نكن أنا وسواي كثير من الناس نعلم لمن يوجه مرور تعز هذه العبارة الاستفهامية، هل يوجهها للسائق الذي يتعامل مع العابرين كحشرات عملاقة؟, أم إلى الراجلين الذين وصلت درجة الامتهان لهم والسخرية بهم إلى عدم وجود خطوط مشاة تحمي آدميتهم على الطريق وتمنحهم فرصة عبور آمنه إلى الجانب الآخر؟.
اليوم وبعد أن غابت سلطة القرار المحلي انتشرت الموتورات وأصبح الطريق حلبة للمخالفات المرورية وظهرت موضة (عاكس خط) في أسوأ تصاميمها وأردأ ألوانها وأضحى كل منا قابضاً على خطواته كما يقبض على دينه ووطنية وإنسانيته.
كثيراً ما كتبت عن الحركة المرورية وكثيراً ما احتشدت الآراء حول فكرة تنظيم الشوارع وإعطاء الحق للمشاة عبر خطوط للمشاة في الأماكن الأكثر ازدحاماً بالمارين على اثنتين أو الماضين على أربع!.. وكثيراً ما شاركنا في الاحتفال بأسبوع المرور ورجل المرور, متمنين على سلطتنا المحلية أن يكون العام كله أسبوع مرور بعد أن أصبحت تعز أكثر محافظات اليمن ازدحاماً بالسكان, بل وأكثر المحافظات تمرداً على القانون!..
لكن اليوم وبعد أن أصبح الطريق مسرحاً للجريمة والسيارات أداة لها والجناة سائقين ممن لم يتجاوزوا سن المراهقة، لا يحملون رخصة قيادة ويجوبون شوارع المدينة وكأنهم يمارسون لعبة البلاستيشن.. أصبح على مرور تعز أن يجب هو عن التساؤل أعلاه وأصبح عليّ أن أسال: إلى من؟ إلى من أتوجه بخطابي بعد أن كان الضحية في هذه المرّة أستاذ اللغات (محمد مصطفى)، الأخ الذي لم تلده أمي, الرجل الهادئ الوقور الذي تشع تفاصيل حياته أملاً في غدِ يمني أفضل وأروع.. ( أبو مريم ) التي قالت حين سمعت أن والدها يرقد على السرير الأبيض ولن يعود إلى المنزل: (هل سيبيت ليلة يتمنانا ونتمناه؟).. وعندها فقط تساءلت أنا: من سيكون لمريم الجميلة طفلة السادسة وسلمى المتفوقة طفلة الثامنة، زهرتان كانتا على وشك أن تذبلا بلا ماء الأبوة وتربة الحنان وسقيا العناية والأمان؟!.
كان الأستاذ/ محمد يقف قريباً من مكتب التربية في تعز وفي شارع جمال تحديداً، في انتظار باص الأجرة الذي سيقلّه إلى شارع 26 سبتمبر, يقف الرجل آمناً وإذا بسيارة صالون تخرج من شارع البريد الفرعي عاكسة للخط نحوه مباشرة, يقودها طفل لم يتجاوز السابعة عشرة، لا يملك رخصة قيادة, مداهماً إياه في لحظة غفلة, محطماً ذراعي الأستاذ ومصيباً إحدى عينيه في صورة شروع في قتل, لكن بطريقة راقية!.. يتدخل المرور وينقل الأستاذ إلى مستشفى تعز التخصصي للعظام، وكما هي العادة في اليمن، بقي الأستاذ على سرير الطوارئ منذ السابعة وحتى التاسعة والأمر بين كر وفر في أسوأ صور الإنسانية التي نعانيها في وطن أصبح لا ينفع للعيش الآدمي، وطن يمكن أن يكون جيداً للكلاب والقطط فقط، لكن لنا نحن، لا أعتقد أبداً.. مساومات بالتنازل، إهمال طبي، معاملة روتينية، فماذا لو كان القادم إلى المشفى يعاني نزيفاً حاداً أو كانت جراحهُ غائرة؟!.
لك الله يا أستاذ محمد، عن أي شيء كان يريدك هؤلاء أن تتنازل وأنت أستاذ اللغات الذي ترى في يديك وعينيك رأس مالك؟!, عن أي شيء كان يساومك هؤلاء وأنت ضحية جديدة في قائمة ضحايا الإهمال المروري والتسيب الأبوي؟، وإلا فما الذي يخسره المرور لو أنه يضرب بقبضة من حديد على كل عاكس خط؟! وما الذي يخسره الآباء لو أنهم قادوا سياراتهم بأنفسهم؟!.. والآن مَن مِن حقه أن يسأل: إلى متى، نحن أم أنتم يا مرور تعز؟!.