"التراجيديا الكبرى ليست بالاضطهاد والعنف الذي يرتكبه الأشرار؛ بل بصمت الأخيار عن ذلك ".. مارتن لوثر كنج.
إذا ما الجهل خيم في بلادٍ .. رأيت أُسودها مُسخت قُرودا
بيت شعري صاحبه معروف الرصافي ويكاد خير تجسيد لواقع نعيشه في الضالع تحديداً، فواحد يعلن ثورة على المحتل فيما حقيقته أنه لص ديدنه سرقة أموال العباد وقوتهم ومزارعهم وبقرهم، آخر يتمنطق بندقية آلي وعلى طريقة "بلاك باك" أو الرجال المقنعين, يشرع في أعمال مخجلة, محرمة, مخزية، فتارة يقطع طريقاً فيعود بطقم أو شاحنة، وتارة أخرى بزلط منهوب أو حتى عنزة من سوق الخميس..
روى رفاق الشهيد/ علي عنتر, قصة ذلكم الثائر الذي لم يجد مندوحة في سرقة ما يسد به جوعه إذ صادف وأن مرت جماعة من الثوار ليلاً في مزرعة وارفة بالذرة الشامية فما كان من أحدهم إلا أن قام بسرقة بضعة سنابل بينما هو في طريقه.
وحين رأى عنتر هذه السنابل بحوزة أحدهم ثار صارخاً وغاضباً وموبخاً لهذا الثائر, وقال قولته الشهيرة: نحن ثوار شرفاء وأصحاب حق عادل، لسنا لصوصاً كي يسرق أحدنا سنبلة واحدة، فمثل هذه الأفعال ليست من شيمة الثوار الأحرار الشرفاء وإنما هي من صفة اللصوص الذين لا يكترثون بشرف أو نزاهة وحق ".
لماذا ولمصلحة من هذا القتل شبه اليومي، وهذا الدم النازف، وهذا العبث، وهذا الجنون؟ لا إجابة شافية ستسمعها، فكل ما في المسألة أن هؤلاء الفتيان وجدوا لهم في مدينة الضالع - خاصة - مرتعاً خصباً يمارسون فيه جل ما اتقنوه وتمرسوا عليه في ظل صمت وغفلة الغالبية الصامتة المداهنة المذعورة المقسرة على التعايش مع هكذا وضعية مزرية.
فواقع الحال أننا وهؤلاء الفتيان الأشاوس خير تجسيد لمقولة أشقائنا المصريين "إذا غاب القط إلعب يا فار" نحن كذلك حين لم نعِ معنى أن تغيب سلطة الدولة وهيبتها وقوتها، النتيجة بالطبع كارثية ومأساوية ليس على سكان هذه المدينة المنهكة القذرة الخرابة القفرة فحسب؛ وإنما على كافة أبناء المحافظة عامة.
فما هو مؤكد ودال أن هذه الوضعية المزرية التي تعيشها عاصمة محافظة كان لها انعكاس سلبي على حياة معظم أبنائها اليومية، وعلى تجارتهم، واستثماراتهم، وخدماتهم، ودخولاتهم، ومعيشتهم، وتعليمهم، وتنميتهم، وحتى كبريائهم، وسمعتهم التي لم تسلم من تشويه وأذى عصابات احترفت الإجرام والقتل والسرقة.
كثيراً ما تسمع هذه الجملة المملة والسؤومة "لا علاقة للحراك بالقتلة واللصوص وقطاع الطرق، فهؤلاء عصابات تعمل لمصلحة الأمن القومي والعام واللواء والنظام" ومع يقيننا بأن هذه الأعمال المخجلة المسيئة لكل إنسان محترم وحر وشريف يدعي الحق والعدل؛ فإننا لم نعثر على مناضل شهم وشجاع؛ كي يعلن على الملأ براءة الحراك السلمي من هذه الأفعال الإجرامية التي يقترفها البعض باسم الحراك وكفاحه.
كنت انتظر من هؤلاء الذين يتزاحمون لدعوتنا للزحف إلى عدن، أو للمشاركة في مسيرات التأبين لقرابين حماقتهم وهمجية النظام؛ لأن يعلنوا صراحة بإدانتهم ورفضهم لمثل هذه الأعمال المضرة كثيراً لحراكهم ونضالهم وهدفهم النبيل والعادل، لكنني وبرغم عناء المتابعة للصحف والقنوات لم أجد شيئاً ذا قيمة وأهمية.
نعم.. كنت أتطلع وآمل؛ لأن ينفي الحراك صلته بجماعة قتلة ولصوص وقطاع طرق كيما يظفر بالنزاهة والشرف والنبل والكبرياء، لكن مثل هذه الشجاعة ليست متوافرة لدى قادة اغتصبوا نضال الجنوب وتضحياته الجسيمة وبأسلوب فض عنيف ومسلح أقل ما يقال عنه بأنه وقح وعدواني ووأد يتساوق في جوهره وسمته مع طرق وأساليب عصابات القتل والسرقة والحرابة..
تصوروا مثلاً لو أن البلطجة والحرابة والسرقة صارت نضالاً مشرفاً تستوجب الشهادة والفخر لا الخزي والعار! لنفترض أن الفلسطينيين والأكراد والألبان والايرلنديون والبوهميون والاسكتلنديون وسواهم من الشعوب المطالبة بحق تقرير المصير كان فعلهم وأسلوبهم لا يتعدى بندقية ورصاصة قاتلة على هذا المنحى المخيف والمخجل!.
أعتقد أنهم سيخسرون تعاطف ودعم شعوب البسيطة, فما من أحد يمكنه نصرة ثورة رجالها لا يتورعون عن قتل الأبرياء والعزل كما لا يخجلهم إذا ما سرقوا ونهبوا وانتهكوا كل مواثيق وشرائع السماء والأرض.
ربما غفل هؤلاء حقيقة أنه ما من قضية خاسرة إلا ويكون فساد الأخلاق قاعدة أساسية لها.
فكما قلنا في تناولات سالفة بانه وعلى فرضية عدم سلمية ثورة الحراك ؛ فإن للسلاح – ايضا – قوانين وأعراف وأخلاق متعارف عليها وطنياً ودولياً، ففي المحصلة هناك معركة محتدمة بين طرفين، هذه المعركة المستعرة أياً كان نوعها وهدفها وكفاءة طرفيها ينبغي أن تخاض بشرف وببسالة.
ليكن خيار الموت المشرف طريقة مثلى لنيل الشعوب حريتها؛ لكن ذلك لا يعني الموت المخزي، فكما قيل بأن الموت ليس هو الرهيب؛ بل الموت المخجل، وليكن مهر الحرية غالياً ونفيساً، وليكن درب هذه الحرية ممهداً بالدم والمهجة والحرقة والألم؛ فهل في منهج عنيف كهذا ما يجعل الانسان يضحي ويخسر إنسانيته وأخلاقه واحترامه وتاريخه ونبل وعدالة ثورته ونضاله؟ فكلما كان الرجل فاضلاً قل خوفه من الموت وفق تعبير صموئيل جونسون.
جبران خليل جبران له قولة شهيرة "لا يستطيع فاعل السوء بينكم أن يقترف إثماً بدون إرادتكم الخفية ومعرفتكم التي في قلوبكم" أعدها أفضل وصف للحالة التي نعيشها الآن في الضالع، فالحال أن عصابات القتل والسرقة والتقطع والبلطجة تفعل ما تشاء فيما غالبية الناس، وكأنهم ليسوا من هذه البقعة التي يرون فيها أفعالاً مخجلة دنيئة مطأطأة لهاماتهم وكبريائهم.
فعلى الرغم من معرفتهم الأكيدة بكونها أفعالاً منكرة دنيئة لا تليق بكل رجل حر وشهم وثائر غايته بلوغ سماء الفضيلة والعدالة والمساواة لا سرقة مرتبات أو إخافة المسالمين ونهب مالهم وسياراتهم ووالخ إلا أنهم فضلوا كمد غيرتهم وحنقهم في صدورهم فيما لسانهم مرددا قولة عبد المطلب: أنا لي إبلي وللكعبة رب يحميها " نعم لكل واحد منا رأسه وأهله وبيته وللضالع المدينة والسلام والأمان والحياة والتنمية والمحبة محافظ وجيش وأمن ونظام يحميها.
ومع يقيننا بأن الشرف والمجد والحق مفردات مانعة أصحابها من الوقوع في الدناءة والانحطاط؛ حبذنا الصمت والمداهنة واللامبالاة حيال أفعال مستنكرة مخجلة لا يتشرف بها غير اولئك المرضى والمعتوهون الذين فقدوا شرفهم وأخلاقهم، ومن فقد شرفه وأخلاقه ونبله؛ فلا أحسبه بمخلوق جدير بالزهو والشرف والتضحية من أجل الآخرين.
محمد علي محسن
الضالع.. أفعال الأشرار وصمت الأخيار!! 2257