فالطريق أطول من أحلامك وخطاك تلتف مثل أكفان الموتى والصقيع الذي يطل عبر نافذة الوحدة يكسر أحلامك بالخوف والرهبة، من يأبه إن وصلت أو لم تصل وأبواب المساء مغلقة أمام قادم غريب كان يوماً هنا.. تسيرُ وحدك حول المنازل وتعود وحدك مثل ثكلى فقدت كل غالٍ في لحظة موت. وحدك تترنح مثل إعصار هزيلٍ يطرق شبابيك الأثير ثم يرحل..
ترى أين أنت الآن في زحمة الأيام وضجيج الساعات الأذنة بالرحيل؟ أين أنت في مواكب الشقاء وقوافل الألم التي تغشت وجه المدينة منذ رحلت؟ هل كنت أنت؟ هل كنت أنت من أطفأ قناديل المدينة وأرخى على أطفالها أغطية النوم وجلس إلى مقعد النسيان في شرفة الثورة ينازع دون أن يستمع ؟؟؟؟؟؟ أحد؟! آه، كم وقفت أمام عيناك عاجزة عن التأويل حين كنت تمد كفك الصغيرة إلى كفن كما يفعل الكبار حين يصافحون أصدقاء الأمس كأعداء اليوم ثم نلهو قليلاً ونعود لتلك الحيرة التي طالما أشعرتنا بالغربة أنا وأنت كنا صغاراً تطيش أيدينا في صحاف الطعام بحثاً عن حبات الزبيب التي أحبها أنا وأنت، هل تذكر تلك الضحكات التي كانت تزورنا مثل فصول العام؟! هل تذكر ذلك الخوف الذي كان يزلزل أجسادنا الصغيرة حين يطرق والدنا باب منزلنا الجميل؟! هل تذكر صوت جدتنا العجوز؟! جارتنا الودود بائع الحلوى التي تحب مذاقها كحبك للعزلة والسفر والارتحال؟! أين أنت بعد أن أصبح الوطن صندوق ذكريات والبشر أوراق خريف والأمنيات سحائب يأبين إلقاء السلام علي؟ هل لازلت أخي الذي تقاسمت وإياه يوماً كأس اللبن؟ هل لازلت ذلك الرجل الذي أثقلت كاهله الأيام بذنوبٍ لم تقترفها يداه؟ هل حطمت القيد الذي زرعته حول معصميك الغربة هل كسرت حاجز الخوف من المجهول؟.. بدأت أنسى ملامحك وأزداد سخطاً على وطن لا يعرف أبناءه ولا يحفظ أسماءهم ولا يرعى وجودهم؛ وطن البهاء والشقاء، وطن الفقر والرخاء، وطن التألق والاحتضار..، كل ما في هذا الوطن مثلك، شعبة يشبه قلبك، حكومته تشبه روحك، مآذنه تشبه أصابعك التي انتصبت في وجه الريح ثم ماتت الريح ولم تتخلي أصابعك. أين أنت بعد ثورة الموت وثورة الحياة؟ هل لازلت تخفي ابتساماتك كالأطفال خلف يديك؟! هل لازلت ذلك الرجل الكبير الذي ترتدي حواسه البراءة؟ هل لازلت أخي الذي شاطرته النوم مضغة في رحم الوطن الصغير؟! أين أنت من قطار العمر الذي مضى؟! أين أنت من كهولة بدأت تجبرنا على الجلوس بصمت أمام الشرفات؟! تعال لترى المدينة كيف تصبح حين يأتي المساء، تعال ندلف الباب الكبير، ونرمق من باب موسى قلعة القاهرة، تعال نقصد بيتنا في أعالي الجبال نقبل رأس أمي وكف أبي، تعال وكن مثلما لم تكن من قبل بعض أخ قيدته الحياة! تعال فبنات البيت يسألن عن طيف ذوى قبل أن يكبرن في ثوب الأنوثة ويصرخن حوله، خالو.. خالو... خالو!.. تعال أخي فلعل قافلة الموت أتيه ولعل عزرائيل يحل ضيفاً، ولعلي بعد هذا لا أراك..
ألطاف الأهدل
من يأبهُ إن وصلت أو لم تصل؟.. 1677