حتى في كون الكتابة مهنة أو حرفة فهي تظل من أسمى المهن أو الحرف على مر التاريخ.
كتب عن هذا نقاد كثيرون, بعضهم يرى في إعتبار الكتابة مهنة أو حرفة إنقاصاً من شأن الكتابة وتقليلاً من أهميتها والنزول بها منزلة التداول ودخولاً لها في سوق العرض والطلب, بينما يرى الفريق الآخر من النقاد أن هذا إرتقاء بها وترصيف لمحتواها وإعلاء لشأن أدواتها التي لايستطيع إفراغ محتواها إلا من كان ذا عقل "فطن" وروحاً مرسلة فيما حولها, مسترسلة في إستيعاب ما حولها من رموز الكون والحياة والمجتمع بما فيه وبما يحتاج إليه من منظومة أخلاقية متكاملة, هي من يصنع هيكله ويشكل بنيته.. والكتابة أم الفنون لأنها توثق كل اشكال الفن المحسوس والملوس زمناً ومكاناً ومحتوى وقيمة, وهي أم المهن لأنها تحمل على متنها كل أدوات الحضارة وتجمع بين دفتي تراثها كل وسائل البناء إنها ذلك التاريخ الذي يختزل أقوى وأضعف المواقف الإنسانية في مفردات صغيرة, يبعث فيها الحياة عبر رحلة حسية ترتدي فيها الكلمات أثواباً رائعة من كل المشاعر شكلاً ولوناً, سكوناً وحركة, إنتصاراً وإخفاقاً, بدءاً وأنتهاءً.. هي ملعقة تغترف من كنوز الروح ما تغترف دون أن ينقص من هذا البهاء الإنساني شيء يذكر..
إنها سلسلة الأحداث التي تجر أفكار البشر جيلاً بعد جيل في قطار الحقب التي لا تفرغ من محتوى الفن والفلسفة والعلم وكل ما يمكن أن يكون الإنسان قد ابتكره وفق احتياجه الملح والضروري لإنجاز مهمة معينة أو تقديم رسالة محددة.. إنها قلم الشعوب الذي لايتوقف أبداً عن رصد حركة الحياة اليومية في كل زمن وعند أي حضارة ولدى أي منعطف وعلى أبواب أحداثه المتضاربة بين حرب وسلام.. هي لون الحقيقة ومعناها, شكلها وفحواها, هي الصفحة البيضاء في كتاب الإنجاز البشري, الكتابة هي ذلك النص الصريح والسيناريو الصحيح للحياة الثقافية التي عاشتها الشعوب على مسرح الحياة.. هي تلك القلائد التي زينت نحر الحضارة في اللحظة التي كانت فيها علاقات البشر توشك على التحول إلى علاقات حيوانية ضاربة حين طغت العادة على العبادة ولم يكن من سبيل لإعادة القيم كحاكم فعلي, إلا عقول الكتاب والمنتصرين للمثل.
ألطاف الأهدل
الكتابة.. قلم الشعوب 1780