كان اسمه نكره، وفي مدة وجيزة صار علماً بارزاً يتصدر أخبار القنوات والصحف، إنها قصة شهرة ونجومية تستحق تسليط الضوء عليها من برنامج زمام المبادرة بقناة "الجزيرة" أو في محاضرات الزعيم/مهاتير محمد، أو الحاصل على جائزة نوبل العالم/أحمد زويل، فلربما – أيضاً - غيرت من المعادلة المعتمدة لقياس النبوغ والتفوق في كتب معهد "كارينغي" للتنمية البشرية، ولتهافت عليها صناع الفن السابع وأحالوها إلى أفلام أكش وعلى غرار أفلام جيمس بوند وكابوي وجون سينا في سينما هوليود الأميركية.
لكننا في أوطان تقرأ في صحفها السيارة عن بلايين، ورحلات النجوم، والمشاهير في الفن والرياضة والإعلام والتكنولوجيا والسياسة والمال والأعمال، وحتى آخر موضة أحذية في باريس أو طبخة عقارب في بانكوك، يقابل هذا السخاء الحاتمي بخل وشح شديد في التعاطي مع سيرة هؤلاء الذين امتشقوا سلاحهم، وراحوا ينسجوا قصة شهرتهم، وبلغة القتل والدم والبارود، وكأن قصة الفأر العظيم الذي هد حضارة عظيمة لا تصلح لأن تكون أسطورة في تاريخ القصص والأفلام العلمية الخيالية التي تتهافت عليها فضائيات العالم.
فكيف بتجربة شهرة بطلها قروي قبيلي، وفي بلد مازال خارج التاريخ والتغطية والاهتمام؟ فمع كل هذه العزلة والإهمال قدر لكعلان بن هلفوت ارتقاء سلم المجد والشهرة والتاريخ، وفي ظرفية أيام قليلة، فبعد أن فشل في تحقيق شهرته، ومن خلال المدرسة التي التحق فيها أسوة بأترابه؛ أراد إثبات تفوقه ونبوغه في نواحي عدة مثل الرياضة والفن والتجارة والنجارة والاغتراب وووالخ.
مهن وأعمال اشتغل فيها زمناً دونما يفلح بتحقيق أمنيته في التميُّز عن أقرانه، فلا قدراته البدنية أو الذهنية تفجرت في ميدان كرة القدم؛ كي يصير نجماً كروياً شبيهاً بميسي برشلونة أو رونالدو ريال مدريد؛ أو أن مواهبة الفذة الأخرى تفتقت في نواحي الغناء وقرض الشعر، أو حتى في سوق البقر والقات.
فلطالما كان يجهد حنجرته في تقليد الفنانين الكبار مثل أبوبكر بلفقيه، ومحمد عبده، والمرشدي، وعبدالحليم، ومارسيل خليفة، كما وأرهق ذاته في المساجلات الشعرية، لسنوات نيفت العشرين وكعلان في مضمار بحث عن مجد وشرف وشهرة بعيدة المنال، فبعيد طرقه لكل الأبواب يكتشف حظه العاثر، فلا مزاولة البيع والشراء جعلت منه تاجراً مرموقاً يزاحم بيت هائل سعيد أو أن كلية الجيش صنعت منه ضابطاً عسكرياً يشار له بالبنان، أو أن امتشاق جنبية وعسيباً حققت له مكانة لائقة في القبيلة.
عاد كعلان إلى قريته معفياً لحيته، مسبلاً قميصه، داعياً أهل قريته لسماع مواعظه وخطبه، فقبل عامين فقط، وعلى يد أحد الأولياء الصالحين، كان قد لبس ثوب التقوى والمغفرة، فكما روي عنه بأنه ولولا ذلكم الشيخ الجليل الورع الفقيه؛ ما كان له أن يصير مؤمناً ورعاً مدركاً بحقارة متاع الدنيا نظير متعة الحياة الأخرى الزاخرة بملذات الجنس والخمر والمأكل والملبس والمسكن.
ظن لبرهة أنه قد عثر على ذاته المفقودة في وظائف كاثرة، فلأول مرة تسنح له فرصة التفرد والشهرة ومن خلال محراب الصلاة ومنبر الخطابة، ومع ما حققه لنفسه من مكانة وقيمة اعتبارية ودينية لدى أهل قريته؛ كان الشيطان أقوى من وعظاته وتقواه، فغوايته تشبه ـ إلى حد ما ـ تراجيدية قابيل وذلكم الغراب الذي دله لطريقة مواراة سوءة قتله لشقيقه هابيل.
كعلان كذلك حين رأى فتى جاهل، وقد علا سهمه في بورصة المال والشهرة، وفي وقت لا يتعدى السنة الواحدة، التحق بزمرة المجاهدين المنافحين عن الحق والعدالة والوطن المثالي النظيف من دنس شياطين الأنس، حمل الكلاشينكوف وشرع يقتل، ويسلب، ويسرق، ويرهب، ويبطش، فكلما زادت غزواته ارتفعت غنائمه وضحاياه، وكلما أثخن في الفتك والنهب والتقطع والتخريب والرصاص انطلق سهمه واسمه ومكانته صاعدة في عنان الشهرة.
في عملية واحدة استهدفت سيارة بنك ظفر كعلان عشرة ملايين، في حادثة اختطاف لسائحة فرنسية كان نصيبه من الفدية مليون دولار، في كمين تقطع حصل على سيارة جيب، باع كعلان حصته من الديزل المهرب بعشرة الآف فرنك، في عمليات قرصنة وحرابة استولى كعلان على مختلف الأسلحة والمعدات والهواتف الذكية والسيارات والدراجات.
آخر عمليات فدائية قام بها كعلان وجماعته تركزت بمهاجمة أبراج الكهرباء، وتفجير أنبوب الغاز، وقطع كابلات الهاتف، واختطاف شاحنة وقود، ووقف ضخ مياه الشرب، والسطو على مرتبات الموظفين، وإغلاق المستشفى والمحكمة ومجمع السلطة المحلية، وإجبار تلاميذ المدارس بملازمة بيوتهم، وكل هذه البطولات المجترحة من كعلان وزمرته جعلته في نهاية المطاف يتصدر نشرات الأخبار وأحاديث الشارع والمجالس.
صحيفة أميركية أثارتها تصريحات كعلان المتوعدة بمهاجمة جنود المارينز، ونسف مؤتمر الحوار الوطني، وخطف ممثل الأمم المتحدة/جمال بن عمر، وسفراء الدول الراعية، هذه الصحيفة أوفدت مراسلها خصيصاً للقاء كعلان بن هلفوت، ظن الصحافي الأميركي أن كعلان يعيش في كهوف الجبال الباسقة، خيل له أنه سيلتقي بزعيم القاعدة المطارد في جبال تورا بورا الأفغانية، لكنه وبدلاً من أن يقتفي أثره في التلال والكهوف حملته مصفحة واقية من الرصاص إلى منزل كعلان الفخم الواقع بجوار مبنى مكافحة الإرهاب وعلى مسافة أمتار من وزارة الداخلية.
كانت دهشة الصحافي كبيرة، فلم يتمالك نفسه من شدة مفاجئته بوجود زعيم عصابة بهذا الحجم والخطر، ويلتقي به في بيته، وفي قلب عاصمة البلاد، ومع اندهاشه وذهوله أخذ يلتقط صوراً للسبع المدهش وسلاحه، جلس بمواجهته وبدأ يسأل كعلان قائلاً: توعدتم بمهاجمة جنود المارينز، وبنسف الحوار، وخطف السفراء؛ فهل عرفنا سبباً لذلك؟ كعلان مجيباً: طمعاً ببنادق جنود المارينز، وزلط الحوار، وشهرة الخطف للسفراء.
سؤال آخر: من كعلان الاسم النكرة والمغمور الذي لا يعرف عنه شيئاً إلى كعلان الزعيم والقائد والمقاوم الذي تتصدر صورته وتصريحاته وأفعاله اليومية القنوات والصحف؛ فما مرد هذه الشهرة أهو الذكاء الخارق أم الشجاعة النادرة أم فصاحة الحق أم كاريزما زعيم العصابة المسلحة؟ يرد كعلان القروي ضاحكاً: قلك جامعة وكفاءة وحق عادل، ما من شهادة وخطابة أفضل من سلاح "كلاشينكوف"! نعم؛ فما من طريقة تجعلك مثار اهتمام حكومتك وقومك سوى بندقية أوتوماتيكية، وجعبة ذخيرة، ودرزانة قنابل، وأعمال فظة مخجلة مشينة.
محمد علي محسن
كلاشينكوف كعلان !! 2106